في المرة السابقة تحدثنا عن ظاهرة عزوف الشباب عن متابعة الإعلام التقليدي ونواصل اليوم بحث ظاهرة أخرى تسمى غرف الصدى في الفضاء الإعلامي
Echo Chambers in Media.
ودعونا نتفق على انها غرفة افتراضية تعبر عن بيئة اجتماعية أكثر منها إعلامية لأنها مجتمع معين أو Community تركز في موقع إلكتروني، منصة تواصل اجتماعي، أو قناة تلفزيونية حيث يتعرض الشخص فيها لأفكار وآراء ومعلومات تتوافق فقط مع معتقداته وآرائه الموجودة في خلفيته المرجعية مسبقًا.
و يُشتق المصطلح من فكرة غرفة الصدى الصوتية، حيث يتردد الصوت عدة مرات فلا يسمع الشخص سوى صدى صوته وما يشبهه.
و في هذه الغرفة، يتم تضخيم الآراء وتكرارها (مثل صدى الصوت في غرفة حقيقية) بينما يتم استبعاد أو تجاهل الآراء المخالفة أو المختلفة.
تعمل هذه الظاهرة من خلال عدة آليات أهمها الخوارزميات (Algorithms) و هي الأكثر قوة في عصر التحول الرقمي ونجدها في منصات مثل فيسبوك، تويتر (X)، يوتيوب، وجوجل تصمم خوارزمياتها لتظهر لك المحتوى الذي من المرجح أن تتفاعل معه (تشاهده، تحبه، تشاركه). بمرور الوقت، حيث تتعرف هذه الخوارزميات على توجهاتك السياسية والاجتماعية وتبدأ في ترشيح المحتوى الذي يؤيدها فقط، مما يعزلك تدريجيًا عن وجهات النظر المخالفة لرأيك .
وهناك عامل نفسي حيث أن البشر بطبيعتهم يميلون إلى الراحة التي توفرها الأفكار المألوفة. لذلك، نهوى تلقائيًا متابعة الأشخاص والصفحات والقنوات الإخبارية التي تتفق مع اهتماماتنا ، ونحظر أو نتجنب أولئك الذين يختلفون معنا.
فضلا عن ان الإنترنت، ساعد الناس في البحث عن مجتمعات تشاركهم اهتماماتهم وأفكارهم ومصالحهم مثل مجموعات الفيسبوك والواتساب، و قنوات التليجرام و كلها أمثلة على بيئات يمكن أن تتحول بسهولة إلى غرف صدى مغلقة يلتقي فيها غالبا المتوافقون فكريا
ومن أمثلة غرف الصدى المشاهد السياسي أو المتابع لقناة إخبارية معينة (يمينية أو يسارية، مؤيدة أو معارضة) بشكل حصري تقريبًا، بعبارة أخرى كلما تقابله تجده يشاهد نفس القناة دون غيرها لانه لا يرغب في الاستماع الى الرأي الآخر.
مثال آخر شخص يتابع فقط صفحات تنتقد الحكومة، وثاني يتابع فقط صفحات تمدحها ونلاحظ أن كلاهما يعيشان في عالم معلوماتي مختلف عن الآخر تمامًا.
هناك من يهوى نظرية المؤامرة حيث يشاهد فيديوهات تكرس فكر التوجس من الاخر وهذا يقود إلى سلسلة من عرض فيديوهات أخرى تعزز نفس النظرية، مما يخلق اقتناعًا قويًا بها.
توجد المجموعات العائلية على الواتساب التي يشارك فيها أفراد العائلة وتتبنى نفس القيم والمعتقدات، ويتم فيها تداول نفس أنواع الأخبار والمقالات التي تؤكد على هذه المعتقدات فقط ولا تقبل الغرباء
ولاشك أن هناك آثارا سلبية لظاهرة غرف الصدى نسردها فيما يلي
الاستقطاب (Polarization) وهو أكبر خطر لظاهرة غرف الصدى. عندما لا يسمع الناس سوى رأي واحد، ويصبحون أكثر تشددًا فيه وأقل تفهمًا للطرف الآخر، مما يزيد الفجوة بين أفراد المجتمع ويصعب الحوار ما يقضي على ثقافة الاختلاف وقبول الآخر
تضخيم نظرية المؤامرة بسبب أن غرفة الصدى هي بيئة معزولة، وطبيعي تنتشر فيها معلومات قد تكون كاذبة إلى حد الشائعات فتنتشر نظريات المؤامرة بسرعة كبيرة دون وجود صوت معارض يكذبها أو يصححها.
تآكل الحقيقة الموضوعية بمعنى عندما يكون لكل مجموعة “حقيقتها” الخاصة، تختفي فكرة الحقيقة الواحدة الموضوعية التي يمكن للجميع الرجوع إليها (انا لا أرى غير ما آرى فقط ) الأمر الذي يؤدي إلى وأد اي فكر ديموقراطي
ومن الآثار الجانبية لظاهرة غرف الصدى ضعف التفكير النقدي بعبارة أخرى عدم التعرض للتحديات الفكرية يجعل العقل كسولًا، ويقلل من قدرة الفرد على تحليل المعلومات ونقدها بشكل موضوعي.
صعوبة الوصول لحلول وسطى عندما تصادفنا قضية أو مشكلة ففي القضايا الاجتماعية والسياسية، يصبح من المستحيل تقريبًا الوصول إلى حلول وسطى !
والسؤال المنطقي كيف نحمي أنفسنا من الوقوع في غرف الصدى؟
تنوع المصادر الإعلامية اي عليك متابعة قنوات إخبارية ومنابر رأي من مختلف الاتجاهات (يمين، وسط، يسار، مؤيد، معارض). حتى لو كنت لا تتفق معها، فمن المهم أن تعرف ما يقوله الطرف الآخر.
تذكر أن ما تراه على الفيسبوك ويوتيوب ليس صورة كاملة عن الواقع، بل هو ما تريد الخوارزمية أن تراه. ابحث بنفسك عن مصادر معلوماتية متنوعة وهذا يسمى الوعي بالخوارزميات
تابع أشخاصًا يختلفون معك بمعنى اختر متابعة عدد قليل من الشخصيات المؤثرة أو الصحفيين المحترفين من الجهة المعارضة لرأيك لفهم منطقهم حتى تشغل عقلك وعينك النقدية
تحقق من المعلومات قبل مشاركة أي خبر، بمعرفة مصدره من خلال مواقع التحقق المعتمدة. لا تشارك بناءً على الانفعال الشخصي فقط.
انخرط في مناقشة من يحترم ادب الحوار و حاول أن تناقش أشخاصًا يختلفون معك في الرأي بهدف الفهم وليس الانتصار عليهم في النقاش. إن الاستماع باحترام وانصات للآخر هو مفتاح المعرفة والإدراك واكتساب الوعي !
غرف الصدى ليست جديدة، لكن الإنترنت والخوارزميات جعلتها أكثر قوة وخطورة من أي وقت مضى. إنها تهدد النسيج الاجتماعي وتقوض الحوار البناء.
عليك أن تبحث عن التنوع والاختلاف، لأن الحقيقة عادةً ما تكون في مكان ما بين آراء متعددة، وليست حكرًا على رآي واحد.
إن الخروج من أسر غرف الصدى سوف يساهم في نجاح عملية الانتقال والتحول من الإعلام التقليدي إلى الإعلام الرقمي أو ما يفضل البعض بتسميته ب الإعلام المدمج Integrated Media
وهو محور حديثنا في الجزء الثالث !
ابراهيم الصياد
جريدة أحوال مصر
