الأزمة الأوكرانية ليست حديثة العهد, لكنها تطفو على السطح بين الحين والآخر كمحاولة لفرض النفوذ وإعادة توزيع الأدوار بين الدول الكبرى. وبالنظر إلى بدايات الأزمة، نجد أنها بدأت فى منتصف العام الماضى، حينما حاول الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة الأمريكية استمالة أوكرانيا بعيداً عن نفوذ روسيا، وإغراءها بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبى,، ومحاولة بعض الشركات الأوروبية مثل شركة “شل”، التنقيب عن الغاز داخل أوكرانيا، لكى تتخلص أوكرانيا من سيطرة روسيا عليها عبر إمدادات الغاز الروسى.
فى هذا الوقت تحديداً بدأت الأزمة، حيث اعتبرت روسيا محاولات الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة الأمريكية, تهديداً لنفوذها التاريخى فى أوكرانيا, التى تمثل منطقة نفوذ لروسيا على البحار الدافئة عبر موانىء البحر الأسود.
وقد عارضت روسيا وبشدة الاتفاقية الاقتصادية بين الاتحاد الأوروبى وأوكرانيا, والتى كانت عبارة عن حزمة من المساعدات الاقتصادية, استشعرت فيها روسيا أن الاتفاقية لها أبعاداً سياسية قد تضر بمصالحها المستقبلية مع أوكرانيا, خاصة أن الحزمة شملت إصلاحات فى النظام القضائى والسياسى فى البلاد, الأمر الذى لا يهدد بخسارة روسيا دورها المحورى فى أوكرانيا فقط, بل فى مناطق أخرى مثل روسيا البيضاء وكازاخستان, والتى كانت فى الماضى القريب خاضعة للاتحاد السوفيتى “أوكرانيا حالياً”, الأمر الذى قد تتطور معه الأوضاع وتختل معه موازين القوى فى العالم, ويتراجع دور روسيا مرة أخرى بعد أن بدأت تستعيد قوتها ونفوذها كقوة عظمى فى العالم, وتعود الولايات المتحدة الأمريكية لدور اللاعب الأوحد فى العالم, خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتى فى 25 ديسمبر 1991 .
ولكى تتجنب روسيا الدخول فى كل هذه المتاهات, قررت تقديم ما يقرب من 15 مليار دولار كمساعدات لأوكرانيا, وتخفيض أسعار إمدادات الغاز الموجهة لروسيا, وانتهت هذه الأزمة, أو هكذا لاح فى الأفق, حينما أعلن الرئيس الأوكرانى السابق فيكتور يانكوفيتش تعليق المفاوضات مع الاتحاد الأوروبى.
لكن الأزمة عادت مرة أخرى للظهور منذ أسبوعين تقريباً, حينما تظاهر ملايين الأوكرانيين فى كل ميادين كُثر, للمطالبة بتنحى الرئيس الأوكرانى فيكتور يانكوفيتش “الموالى لروسيا”, والانضمام للاتحاد الأوروبى, وللاعتراض على التدخل الروسى فى أوكرانيا.
وانتهت المظاهرات بوفاة 100 أوكرانى, وهروب الرئيس “يانكوفيتش” إلى مدينة روستوف الروسية, وتعيين رئيس جديد هو ألكسندر تورتشينوف.
الأطراف المتصارعة وتأثير الأزمة عليها
الأزمة التى تعيشها أوكرانيا الآن لها أكثر من طرف, بعضهم رئيسى والآخر فرعى, الأطراف الرئيسية هى “الولايات المتحدة الأمريكية, روسيا, وأوكرانيا”, أما الأطراف الفرعية فهم جماعات المصالح, بين الأطراف الرئيسية.
أما عن الأزمات التى نتجت عن ما يحدث فى أوكرانيا فهم ثلاث, فكان أكبرها أو أكثرها تأثراً هو تهديد أمريكا بفرض عقوبات اقتصادية على روسيا, الأمر الذى لم تشغل له روسيا بالاً, فهى تملك احتياطى هائل وكبير من الثروات, كما أنها تتحكم فى معظم إمدادات الغاز إلى الاتحاد الأوروبى, ويمكنها استخدامه كسلاح للى ذراع أمريكا فى أى عقوبة قد تتخذها ضدها, كما فعلت فى شتاء عامى 2006 و 2009, عندما قامت روسيا بإغلاق صمامات الغاز التى تمر عبر أوكرانيا وتغذى أوروبا أيضاً, والسبب كان عدم دفع أوكرانيا للرسوم المستحقة لروسيا نظير الغاز الذى تستورده, وقتها تعرضت أوروبا لموجة شديدة من البرد القارص عرضت الكثير من المواطنين لخطر الموت برداً, ومن وقتها وأوروبا تحاول التقليل من اعتمادها على الغاز الروسى الذى كان يمثل أكثر من 45% من استهلاكها, واتجهت أنظارها إلى الجزائر, لكنها لم تستطع التخلى عن الغاز الروسى, لتصبح ورقة الغاز ورقة رابحة فى الصراع بين القوى الكبيرة.
أزمة أخرى تمثل صداعاً مزمناً فى رأس كل القوى, وهى “شبه جزيرة القرم” الأوكرانية, والتى يحوطها البحر الأسود من الغرب والجنوب, وبحر أزوف من الشرق.
وتخضع الجزيرة لحكماً ذاتياً ضمن الجمهورية الأوكرانية, وقد طرح البرلمان فى القرمى بعد الأزمة الأوكرانية الأخيرة, قانوناً جديداً للانضمام إلى روسيا, وقال أنه سيطرحه للاستفتاء يوم 16 مارس الجارى, والمرجح أن الاستفتاء سيكون لصالح روسيا, حيث تتمتع شبه جزيرة القرم بأغلبية سكان من أصل روسى.
أما الأزمة الثالثة والتى تم تسييسها, فهى الطلب الذى تقدم به الرئيس الأوكرانى المعين لمجلس الأمن, والذى طالب فيه المجلس بالتدخل لحماية الجزيرة من الحشود العسكرية الروسية الموجودة بالفعل فى القرم بغرض حماية المواطنين ذوى الأصول الروسية ويعيشون فى الجزيرة.
ألكسندر تورتشينوف” الرئيس الأوكرانى المعين, يعلم جيداً أن روسيا تملك حق النقض “الفيتو” فى مجلس الأمن, بالإضافة إلى الدعم الصينى لروسيا التى تملك هى الأخرى حق النقض فى مجلس الأمن, والطبيعى أن كلتا الدولتين ستعارض أى قرار قد يأخذه مجلس الأمن ضد روسيا, وبناء عليه فهو يعلم مقدماً أن طلبه من مجلس الأمن مرفوض مقدماً, وقد قدمه من أجل تسييس الأزمة وتدويلها لا أكثر.
السيناريوهات المتوقعة لحل الأزمة
بعد كل ما حدث فى الأسابيع القليلة الماضية, فهناك حلان لا ثالث لهما, إما حرب أو لا حرب.
فى حالة الحرب, فإن الولايات المتحدة الأمريكية تعلم جيداً أنها لن تستطيع الدخول فى حرب الآن, خاصة بعد أن أعلن وزير الدفاع الأمريكى جون ماكين عن تخفيض عدد الجنود بالجيش الأمريكى, وقرر عدد خوض أى حروب جديدة فى المستقبل القريب, تخفيضاً للنفقات التى يستهلكها الجيش, ورتقاً للاقتصاد الأمريكى المهرتل.
أوكرانيا أيضاً لا تستطيع خوض أى حرب ضد الجيش الروسى, فأوكرانيا تملك 135 ألف جندى, مقابل 835 ألف جندى روسى, بالإضافة إلى الأسلحة الجديدة والمتطورة, والدعم المادى الكبير الذى يلقاه الجيش الروسى.
بالإضافة إلى كل ذلك, فإن العالم ليس بحاجة إلى حرب عالمية ثالثة, فى ظل الصراعات التى يشهدها فى كل ركن من أركانه.
أما فى حالة اللاحرب فسيكون هناك خيارين, إما استمرار حرب التصريحات الباردة بين روسيا وأمريكا وأوكرانيا, أو محاولة الوصول لحل سلمى عبر جلوس جميع الأطراف على طاولة الحوار, ومحاولة إيجاد حل سلمى يجنب الجميع الوقوع فى خسائر بشرية أو مادية, والطرف الأقوى هو الذى سيفرض كلمته على الجميع, وسيسطر تاريخاً جديداً للمرحلة القادمة, قد ينهى معه أسطورة النجم الأمريكى الأوحد الذى يفرض كلمته على الجميع.