لما تدهورت أحوال الدولة الطولونية في أيامها الأخيرة في مصر تطلعت دولة الخلافة العباسية إلى استعادتها والسيطرة عليها من جديد.
فلم يجد الخليفة العباسي الراضي بالله خيرًا من محمد بن طغج ليوليه مصر، ويعيد إليها الأمن والسلام، و بعدما تمكن من قمع الفتن والثورات، عهد إليه بها سنة (323هـ 935م)
استعد ابن طغج لما أسند إليه من مهمة صعبة، وأعد عدته وعتاده واتجه إلى مصر على رأس حملة عسكرية برية، ترافقه حملة بحرية نجحت في الاستيلاء على ثغور مصر في دمياط، وسارت في النيل حتى بلغت “سمنود”.
وهناك التقت بسفن ابن كيفلج والماذرائي وألحقت بهما هزيمة ساحقة في (شعبان 323هـ = يوليو 935م)، وواصلت سيرها حتى بلغت جزيرة الروضة بالقاهرة، وفي أثناء ذلك كانت قوات ابن طغج البرية قد نجحت في فتح مدينة الفسطاط في (رمضان 323هـ= أغسطس 935م).
وما كادت أقدامه تستقر في عاصمة البلاد حتى بدأ في تثبيت نفوذه، والضرب بيد من حديد على الخارجين عن النظام، والقضاء على المشاكل التي يثيرها أنصار الحاكم السابق، والعمل على صد هجمات الفاطميين الذين لم ييئسوا في ملاحقته بحملاتهم العسكرية المتكررة،
وقد أدت جهوده إلى استقرار الأوضاع في مصر، فلقبه الخليفة بلقب الإخشيد، ويعني هذا اللقب باللغة التركية “ملك الملوك”، كما يلقب الفرس ملكهم كسرى، والروم قيصر، والترك خاقان، واليمن تبع، والحبشة النجاشي.. إلخ.
سار الإخشيد على نهج أحمد بن طولون، مُؤسس الدولة الطولونية السابقة لِإمارته، فاستقلَّ بِمصر عن الدولة العبَّاسيَّة، واستولى على معظم الشَّام عدا حلب التي تركها للحمدانيين ، ثُمَّ ضمَّ الحِجاز إلى دولته، و التي لم ينجح ابن طولون في ضمها من قبل.
وكان الإخشيد واليًا حازمًا يقظًا ذا خبرة كبيرة بِالحرب، شديد الحذر والحيطة على نفسه، فاعتمد على جُنده وحرسه وخدمه.
كما كان بلاط الإخشيد مجمعا للعلماء وملتقى لأهل اللغة والأدب، يصلهم بعطاياه، ويمنحهم جوائزه،
ونهض الإخشيد بالحياة الاقتصادية للدولة، فزادت المحاصيل الزراعية وازدهرت الصناعة ونشطت التجارة،
وقد أعجب المؤرخ المعروف أبو الحسن علي المسعودي بالنهضة التي أحدثها الإخشيد، وسجل ذلك في كتبه ومؤلفاته حين زار مصر.
وعنى الإخشيد بزيادة العمران وتشييد القصور وإقامة البساتين وإنشاء المساجد، والبيمارستانات لاستقبال المرضى ومعالجتهم.
وفي عهد الإخشيد ظهر منصب الوزير رسميًا لأول مرة في مصر، وكان أبو الفتوح الفضل بن جعفر الفرات هو أول من تولى هذا المنصب حتى وفاته سنة(327هـ =939م) ثم خلفه ابنه جعفر بن الفضل.
ويذكر للإخشيد أنه كان يجلس للنظر في المظالم يوم الأربعاء من كل أسبوع، وكان ذا دين يحب الصالحين ويتقرب إليهم ويحضر مجالسهم، وقد دفعته هذه النزعة الطيبة إلى هدم أماكن الفساد واللهو وإغلاقها.
وتصفه المصادر التاريخية بأنه كان مَلِكاً حازما متيقظا لأمور دولته، حسن الرأي والتدبير شديد البطش.
أبو المسك كافور
وبعد وفاة الإخشيد، تولَّى (أبو المسك كافور) شُؤون الحُكم، نيابةً عن ولديّ الإخشيد: (أُنوجور وعليّ) وكان كافور مملوكًا حبشياً اشتراه الإخشيد بِثمانية عشر دينارًا، كما يُقال، وجعلهُ خادمه الخاص.
ولمَّا مات عليّ انفرد كافور بالحُكم، وعمل على توسيع رقعة إمارته مُستفيدًا من ضعف الدولة الحمدانيَّة، ورضى الخِلافة العبَّاسيَّة عنه.
وقد استطاع كافور أن يصمد أمام هجمات الفاطميين القادمين من إفريقيا.
وأمضى كافور في الحُكم، 22 سنة، من أصل 34 سنة من حياة الدولة الإخشيديَّة كُلَّها، واعتُبر من الشخصيَّات التاريخيَّة النادرة إذ أن بُلُوغه قمَّة الحُكم وهو الخادمُ المملوك، أوَّل حادثةٍ من نوعها في التاريخ الإسلامي، وإن كانت قد تكررت فيما بعد.
كما استغلَّ كافور الظُروف السياسيَّة لِمصلحته، فاستفاد من ضُعف الخِلافة في بغداد ، ومن الخلاف الدائر بين أُمراء الدُويلات المُجاورة، وحافظ على التوازن في الصراع القائم بين الدولة العبَّاسيَّةالمتهاوية في بغداد والدولة الفاطميَّة النامية في أفريقيا.
وبِموت كافور، ضاع التوازن السياسي الذي كان يُحافظ عليه.
فقد خلفه أبو الفوارس أحمد، حفيد الإخشيد، وكان عمره أحد عشر عام ، ولم يستطع أن يُقاوم القُوَّات الفاطميَّة التي استولت على مصر.
جريدة أحوال مصر
