أخبار عاجلة

هبه عبد العزيز تكتب… جوشينيرى (١)

“جوشينيرى” …. كانت أول كلمة تحدثت بها “لويز ميشيل” لقبائل “الكاناك” الزنجية، الذين إشتهروا بأكل لحوم البشر! وذيع أنهم إفترسوا عدد من المسجونين الهاربين لمنطقتهم !!!!  …. زارتهم “لويز” التى كانت بداخلها رغبة دائمة فى الحديث الإنسانى الدافىء للآخر، وكانت غالبا ما تشرع قلبها لكل العابرين لربما ينتقلوا خلال خبراتها ومعارفها الحياتية إلى مكان أفضل مختلف … 
…. وقد قالت  لهم “جوشينيرى” تلك الكلمة التى تعنى فى  اللغة الكاناكية  : أنا أخت وصديقة لكم ….. 
– وسألها رئيسهم  – على ما كان يبدو من هيئته وملبسه – …من أنت؟ … وماذا تريدين؟ ….. وهل أرسلك إلينا البيض الأشرار؟؟؟.
– فأجابت” لويز” : لا … أنا أخت وصديقة.
– فرد عليها : مممممم …..إذن فأنت هاربة من السجن…. وتريدين منا إخفائك عن الحراس … ولكن إعلمى أننا هنا  لا نخفى سجناء!.
– فأجابت : لا لست هاربة من السجن. 
……وساد صمت لعدة لحظات بين أفراد القبيلة  ….. 
– ثم عاود وسألها : أنت مجرمة بلا شك!.
– وأجابت : لا …. لست مجرمة.
وتلك المرة سادت دهشة أعتلت وجوه ” الكاناكيين” …..
– ثم سألها  ليبدد تلك الدهشة : لماذا إذن أرسلك البيض لشبة جزيرة نائية موحشة معزولة عن الحضارة فى المحيط الهادى…..؟
– وسرحت ” لويز”  …. صاحبة ال ٤٢ عاما …. تفكر ….. كيف يمكنها أن تستعرض قصة (كفاحها) بكلمات بسيطة لأفراد قبيلة “الكاناك” ، تقص من خلالها عليهم : حكايتها مع الكفاح ….. كفاحها  من أجل الحياة ، و من أجل الوطن ، و من أجل المعرفة ……
وسأحاول أن أستعرض معكم بشىء من الإختصار التاريخ الكفاحى لسيدتى الملهمة ، فقد ولدت المناضلة الفرنسية ” لويز ميشيل” فى عام ١٨٣٠م، فى قصر كبير ،وكانت إبنة لصاحب هذا القصر، ولكنها ابنته غير الشرعية من خادمته “ماريان ميشيل” ….. وأحبها كثيرا والدها صاحب القصر ، وأخذ يرعاها وينمى طاقاتها ويثقف ملكاتها، فكتبت هى الشعر، وساعدها هو على إرسال ما تكتبه ل “فيكتور هيجو” أشهر الشعراء حينها، وإستمرت الدنيا تبتسم ل ” ميشيل” حتى وفاة والدها ، فأنكرت أسرته نسبها مما جعلها تنتسب لأمها ” ماريان ميشيل” …. وطردت من القصر وخرجت “لويز” مع أمها  … حيث إستقرا فى منطقة ريفية،  أنشأت بها مدرسة لتعلم فيها الناس وتكتسب لتستطيع العيش …… ، وفى تلك المرحلة كان وجدانها قد أخذ يتفتح للمعرفة أكثر وأكثر ….  وتبلورت لديها بداية الكفاح السياسى، وخاصة عندما تحمست لمبادىء الجمهورية.
فتركت الريف … وذهبت الى العاصمة باريس … حيث عملت هناك كمدرسة … وتعرفت على العديد من الحشود البشرية الوافدة مثلها من الأرياف ، فقد كان منهم : الفلاحين والعمال والطلبة والمثقفين الأحرار، كانت تستمع إليهم كثيرا، وتبادل معهم الأحاديث  فى التاريخ والموسيقى والأدب و…… وكانت تلقى عليهم أيضامحاضراتها التى برعت فيها حول حياة  الأنسان و دوافع تقدمها.
وفى الوقت نفسه كانت تكتب وتميزت فى فن الكتابة، كما وكانت لها إسهاماتها النضالية فى المعارك التى إستهدفت إمبراطور فرنسا فى سيدان، ….ويذكر التاريخ أنه فى شتاء حزين سقطت ” ستراسبورج” ودبت الفوضى والخوف أنحاء البلاد وإنتشر الجوع فى باريس كلها ، …. وحينها تشكلت وظهرت للوجود  حركة “الكومون” للدفاع عن الأرض ومقاومة الزحف، و جدير أن أذكركم بأن  “الكومون” كانت أول حكومة عمالية فى التاريخ.
وقد ساهمت “لويز” فى إثراء تلك الحركة الثورية بنشاطها الكفاحى الدائم، فقد كانت تعقد المؤتمرات التى تدعو من خلالها النساء لحمل السلاح لمحاربة المعتدين، وقد نجحت بالفعل فى تنظيم ما يقرب من ٦٠٠٠ إمراة إشتركت بهن فى معركة تعد من أعظم المعارك فى تاريخ فرنسا الحديث، ….. وقد ظلت باريس حينها تحارب الجوع والفوضى والحصار لأكثر من شهرين حتى نفذت الذخيرة ، وتساقطت قلاع المقاومة،….. وقبض على قيادات وأعضاء “الكومون” وقدموا للمحاكمة ،….. وسأذكر معكم بعض من أبيات الشعر الوطنية الجرئية التى راحت تمطرها “لويز” أثناء محاكمتها بكل شموخ وكبرياء وحب للوطن : 
باريس … أيتها المدينة التى إنتفض فيها قلب العالم … مالك ترقدين اليوم رقدة الأموات!!!….. ولكن! …. لن يستطيع أحد أن يوقف عجلة التقدم.إن بطولة الشعب كفيلة بأن تقيم الجمهورية فهذا أوان سقوط التيجان!.
وقد تم الحكم على “لويز” بالنفى،  وحملتها إحدى السفن إلى تلك البقعة النائية من العالم، والتى جلست فيها تقص قصة كفاحها على أفراد من قبائل “الكاناك” الزنجية ممن قيل أنهم  من آكلى لحوم البشر!!!. وهو السبب الذى دفع “لويز” على التصميم لخوض تلك المغامرة أو دعونا نقول (المخاطرة) لزيارة هؤلاء الزنوج (ذوى القلوب الطيبة) كما وصفتهم لنا “لويز” فيما بعد فى كتابتها …. فقد ذهبت إليهم بدافع من المعرفة التى لم يستطيع حتى النفى أن يخنق رغبتها الدائمة والملحة فى الوصول اليها!!!…. معرفة الإنسان والحياة…. فقد عاشت فى شبة الجزيرة المعزولة تدرس زملائها المنفيين معها الشرفاء منهم والمجرمين ، وتدرس كذلك النباتات والحيوانات والحشرات…. 
وكانت محطاتها الآخيرة مع هؤلاء الزنوج (ذوى القلوب الطيبة)، فقد ذهبت لتجلس معهم مجلس إنسان لأخيه الإنسان، لتتعرف بنفسها على حقيقة ذلك الإنسان الذى يسمونه متوحشا ، وهل هى حقيقة بالفعل؟  أم أنها أشباح الوهم المقصودة ؟! …..ولربما كان هدف “لويز ” الأسمى هو حمل زهرة حياتها وزهرة حياة الإنسانية (المعرفة)  معرفة العالم لغيرها من البشر….. 
وأذكر معكم أنه عندما صدر قانون بالعفو عنها والسماح لها بالعودة لفرنسا ، كان قد ترددت كثيرا فى قرار العودة لوطنها، فقد كانت تريد أن تستكمل رسالتها مع هؤلاء الزنوج الطيبين، كانت تريد تعلمهم وتفتح لهم مدرسة يطلون من خلالها على نوافذ جديدة للحضارة والإنسانية.
ولحديثنا بقية….

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *