د.محمد شومان يكتب.. مستقبل صحافة المواطن !!

صحافة المواطن أو إعلام المواطن Citizen Journalism مفهوم مراوغ لا يوجد اتفاق حوله بين الباحثين والممارسين، فقد اختلفوا حول معناه وحدوده ومكوناته، والإشكاليات التي يثيرها، ومع ذلك انتشر على نطاق واسع وأصبح حقيقة يومية يستخدمها الجمهور والصحف الكبرى وقنوات التلفزة ومتخذو القرار، ويخشون تأثيراتها ويحاولون الاستفادة منها كل بطريقته.
وهناك تعريف طريف ولكنه مؤثر لصحافة المواطن يرى أنها المواقع التي تنشر مساهمات الاشخاص الذين لا يجدون وظائف مع وكالات الأنباء، لكن هذه المواقع تؤدي وظيفة مشابهة. هؤلاء الصحافيون المواطنون، يقدمون لنا معرفة بما يحدث في الأماكن التي يعيشون ويعملون فيها، وقد يقدمون لنا صورة عن العالم أغنى من التي نحصل عليها من وكالات الأنباء، وانتشرت صحافة المواطن في السنوات الأخيرة، ولعبت دوراً مؤثراً في ما عرف بثورات الربيع العربي، ويرجع ذلك أساساً إلى نمو وسائل التكنولوجيا الجديدة (الهواتف الذكية) التي تسمح للمواطنين العاديين بالكتابة والتصوير وتحرير وتوزيع المحتوى من خلال وسائل التواصل الاجتماعي.
لكن كثيراً من المضامين التي يبثها إعلام المواطن تمثل تهديداً للصحافة كمهنة وللقواعد المهنية المعمول بها في الإعلام، لأنه يسمح لكل مواطن أن يصبح صحافياً يجمع الأخبار ويحررها وينشرها بغض النظر عن صدقيتها، ما يخلق واقعاً فوضوياً لتداول الأخبار والمضامين وربما الإشاعات. من هنا حاول بعض الصحف ومحطات التلفزة احتواء هذا الوحش المخيف والاستفادة منه من خلال استخدام بعض الأخبار والأفلام التي يجمعها مواطنون وبثها بعد التثبت من صدقيتها. وهو ما أدى عملياً إلى اعتراف المؤسسات الإعلامية القائمة بإعلام المواطن كأحد مصادر الصحافة والإعلام وليس بديلاً عنها أو عن الوظائف والأدوار المهنية التي يقوم بها الصحافيون بعد قضاء سنوات من الدراسة والتدريب.
والحقيقة أن مجال الصحافة والإعلام في العالم، وبخاصة في المنطقة العربية، يعيش مرحلة انتقالية صعبة حافلة بالأزمات الاقتصادية والفنية والتحولات الكبيرة، التي تؤثر بعمق في إنتاج وتداول الأخبار والآراء ومهنة الصحافة والإعلام وتدريسها. ولا ريب أن هذه التحولات تطرح إشكاليات وتحديات من نوع جديد، لكن الأزمة أننا نفكر فيها بطريقة قديمة، كما أن تكنولوجيا الاتصال والإنترنت والتطور المتلاحق في البرمجيات تجعل من الصعب تماماً استشراف المستقبل أو تحديد سيناريوات مقنعة لتطور إعلام المواطن، وشكل العلاقة بينه وبين مؤسسات الإعلام التقليدية. وعلى رغم ضبابية هذه المرحلة الانتقالية فإنه يمكن رصد ثلاثة اتجاهات مستقبلية تتفق على ما بينها من اختلافات على أن بيئة الإعلام والإعلاميين تغيرت، وأن الجمهور هو الرابح الأكبر ضمن تيار التغيير المتواصل والذي قد يفتح المجال بفعل التطور التكنولوجي لإمكانات وفرص غير مسبوقة.
الاتجاه الأول: يبالغ في الاحتفاء بالآثار الإيجابية للإعلام الجديد وإعلام المواطن، وينظر إليه باعتباره ليس فقط وسيلة للتعبير الحر عن الآراء وممارسة حق الاتصال، وتحقيق الديموقراطية والرقابة الشعبية، بل باعتباره وسيلة للتغيير الاجتماعي وتمكين الفئات المهمشة وتحقيق العدل والمساواة، ودعم مشاركة المواطنين في القضايا العامة الداخلية والخارجية. ويتحدث أنصار هذا الاتجاه عن إعلام المواطن كسلطة خامسة تتفوق على السلطة الرابعة في عدم خضوعها لسطوة الإعلان والاحتكارات الإعلامية أو رقابة حارس البوابة، علاوة على قدرته على الاشتباك مع القضايا الدولية وخلق رأي عام معولم يمكن أن يدعم فرص تحقيق السلام بين أطراف متصارعة.
باختصار إعلام المواطن هو نوع من الصحافة أو الإعلام البديل القادر على حل مشكلات الصحافة في العالم وضمان استقلالها، فهو إعلام تشاركي وتفاعلي حقيقي، وعابر للحدود القومية والاختلافات الثقافية. ويؤمن أنصار هذا الاتجاه بأن إعلام المواطن سيحل محل الإعلام التقليدي.
الاتجاه الثاني: يعارض فكرة إعلام المواطن ويؤكد ضرورة الاحتراف والمهنية، ويطعن في دقة وصدقية المحتوى الذي يقدمه ذلك الإعلام، مستنداً إلى تورط مدونين في مئات الوقائع الخاصة بانتهاك حقوق الملكية والخصوصية، وترويج الإشاعات. لذلك يتهكم البعض على إعلام المواطن بالقول إنه «دعاية مواطن»، إذ يسيء البعض استخدام وسائل الإعلام الجديد في الترويج لنفسه وتجارته من دون رقيب.
ويعتقد أصحاب هذا الاتجاه وأكثرهم من الإعلاميين وأساتذة الجامعات أن تكنولوجيا الاتصال أتاحت فرصاً كبيرة لمشاركة الجمهور في إنتاج وتداول المحتوى والتفاعل مع وسائل الإعلام، والتعبير الحر عن الآراء، لكن لا يبرر هذا أن يحل الهواة مكان المحترفين، أو أن تغلق كليات ومعاهد تحت دعوى أن ممارسة الصحافة والإعلام حق من حقوق الإنسان، فالتخصص مطلوب ولا بديل من الاحتراف في إنتاج وتداول الأخبار ومناقشة القضايا العامة. صحيح أن الأحداث والأخبار قد تقع أمام شهود عيان قد يتمكنون من نقل الحدث والتقاط مقاطع فيديو ونشرها في شكل فوري، كما حدث في كثير من الأحداث المهمة، لكن تظل هناك حاجة ماسة إلى الاحتراف لضمان الدقة وشمول التغطية الإخبارية وتقديم أكثر من وجهة نظر، خصوصاً أن شاهد العيان قد يقدم الحدث من وجهة نظره فقط أو من الزاوية والمكان اللذين شاهد منهما وقوع الحدث.
ولا يطالب أنصار ذلك الاتجاه بحظر أنشطة المواطن الصحافي أو المدونين أو سن قوانين ضد إعلام المواطن، بل يطالبون بأن يقتصر نشاط المواطنين على تبادل الأخبار والآراء الخاصة والابتعاد عن منافسة الإعلاميين والمؤسسات الإعلامية. ويجادل هؤلاء بأن الإعلاميين هم مواطنون أيضاً، وعملت المؤسسات الإعلامية التقليدية دائماً في خدمة المواطنين ومفهوم المواطنة، بالتالي لا داعي لخلق تمييز على أساس أن فريقاً منهم يعمل في شكل محترف في مهن إعلامية، بينما يعمل الآخرون في مهن أخرى ومن حقهم تماماً المشاركة في إنتاج وتداول المحتوى الإعلامي، ولكن ضمن الأطر القانونية والقواعد المهنية ومواثيق الشرف.
الاتجاه الثالث: ينطلق أصحاب هذا الاتجاه من فرضية أنه لا توجد وسيلة إعلام تقليدية لا تعتمد على تكنولوجيا الاتصال والإنترنت ووسائل الإعلام الجديد. وبالمثل لا وجود لمدون أو ناشط على الإنترنت لا يستخدم وسائل الإعلام التقليدية. وبالتالي فإن فرص التعايش وربما التعاون بين الطرفين ممكنة ومطلوبة. ويقول غيلمور: لقد تغيرت أمور كثيرة جداً، لكن المقدمة المنطقية الأساسية التي ينطلق منها اتجاه «نحن الإعلام» لم تتغير، وأعتقد أننا نعيش الأيام الأولى لشيء في غاية الروعة – وربما مخيف قليلاً – وهو عصر قد نستطيع فيه نحن الناس أن نستعيد السيطرة على الأخبار».
المعنى، أن تحل علاقة التعاون والمشاركة بين الإعلام التقليدي وإعلام المواطن محل الصدام ومحاولة نفي الآخر، وأن يعمل الطرفان من أجل تقديم الحقائق ووجهات النظر كافة من دون رقيب أو حارس البوابة، ومن دون أن يتدخل أي منهما في حرية الآخر وطريقة عمله. وأعتقد شخصياً أن تعاون الطرفين يمكن أن يقود البشرية إلى صيغ جديدة في العمل الإعلامي تعظم مشاركة المواطنين وتقلص هيمنة المؤسسات الإعلامية الكبرى وقواعد العمل فيها والتي أثبتت أبحاث كثيرة أنها قد تعرقل الوصول إلى الحقائق وتقديمها للجمهور.
أن تحقيق صيغ التعاون والمشاركة بين إعلام المواطن والإعلام التقليدي يتطلب من الطرفين تقديم تنازلات، وتعلم مهارات عدة، لعل في مقدمها بعض قواعد العمل الصحافي الخاصة بتحري الدقة قبل النشر مع احترام قوانين حماية الخصوصية والملكية الفكرية وكفالة حق الرد للمنتقدين، إضافة إلى التزام قواعد ومدونات سلوك في التغطية الإعلامية. وفي المقابل على الإعلاميين والمؤسسات الإعلامية التنازل عن بعض الامتيازات، لأن المواطنين والمدونين قد يشاركونهم هذه الامتيازات والأخطار، ما يتطلب توسيع دائرة الحماية. ولا بد أيضاً أن يتعامل الإعلاميون المحترفون باحترام وندية مع المواطنين الصحافيين والمدونين ونشطاء «الفايسبوك» و «تويتر». كذلك يجب على المؤسسات الإعلامية أن تتقبل وجود شركاء أصغر ولكنهم أكثر حفاظاً على التعددية والتنوع، وربما أكثر قدرة على الحركة في ظل الأزمة التي تواجه أغلب المؤسسات الإعلامية العريقة عبر العالم، وتهدد قدرتها على الاستمرار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *