أخبار عاجلة

نهى البلك تكتب… وأشد منه سيكون !!

بلى شهدنا..

ماذا لو أصبح المعروف بيننا منكرًا، والمنكر معروفًا؟..
افتراض مخيف، لأنه يعني انقلاب الموازين كلها، اختلال التقدير ليس على المستوى الفردي وإنما على مستوى عام مجتمعي شامل، أو (غالب) على أقل تقدير.
وقبل أن يحدث ذلك لابد أن تسبقه مفاهيم تتسرب إلى النفوس بشكل ما، تمهد لها ما تقيم به ما تسمعه وما تجده.. تلك المفاهيم التي تبدأ في الشيوع بعدما أطلقها شخص أو فئة ما، بقصد أو بغير قصد، بجد أو بهزل، ولكن تكرارها وتناقلها وتداولها يجعلها مكرسة مستساغة جادة متقبلة، أيًا كان مصدر وكيفية انطلاقها.. تتحول إلى مثل، قاعدة، ربما تصير (بديهية) وهي في حقيقتها قلب للمنطق أو للفطرة أو لمراد الله.
من ذلك السخرية من أرقى ما ثمنه الله عز وجل وعلا، كلمة ربما لم يدركها غالبية الساخرين منها أو هم يدركون ولكنهم افتقدوها فسخروا منها.. ” الحكمة ” التي قال الله تعالى عنها: “يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ”.
… تحولت هذه الكلمة الجليلة الثمينة التي أعلى الله شأنها، إلى معنى يستهزأ به ويستنكر ويستهان بمعناه.
فرق بين أن تسفه من قيمة، وأن تنكر على من يدعونها، ولكن هذا الفارق لا يكاد يبين حتى يتلاشى وتبقى السخرية من القيمة نفسها. ومن شأن ذلك أن يهونها على الناس فلا تعود تقدر أو تثمن ولا يعود فارق بين من حملها ومن يحمل نقيضها… مثلها كمثل قيمة “العلم” وقيمة “الدين” وغيرها..
وبديهي أن من يسخر من قيمة من تلك هو في الغالب من فقدها، لكن تقدير القيمة لا يشترط امتلاكها، يكفي أن تبقى مقدرة في مجتمع بما يحفظ له رشده العام وتقديره ووزنه للأمور..
ومن ذلك _تداول المفاهيم المغلوطة_ تكرار معنى الرفض واستنكار قيمة “النصح، والتناصح”… يعلن الشباب رفضهم لتلقي النصيحة ويسخرون منها، ويعلن بعض الأكبر سنًا رفضهم لأن يكونوا ناصحين.. بترويج معنى يبجل التجربة الشخصية المحضة المتخلية عن كل خبرة سابقة امتلكها الغير والرافضة لخلاصاتها، وكأن على البشر أن يبدأوا دورة جديدة للرشد مع كل جيل!
شيء يشبه تجربة الذكاء التي تجرى على الفئران، والفأر هنا يمثل المجتمع ككل، وكأنه يصر على أن يبدأ كل اختبار فاقدًا لذاكرته السابقة ليعيد الفشل والإصابة والموت.
وحين يتحول الأمر إلى مفهوم مبرر مكرس في الأذهان فإنه لا يقتصر على موضوعه، وإنما يتعداه ليصبح مبدأ عامًا في التعامل مع الحياة، فيصبح التاريخ بخبراته السابقة مهملًا، باعتبار أن علينا أن ننشئ تجاربنا الجديدة بإخفاقاتها وسفاهتها هي ذاتها.. كأن من العقل في شيء أن نصنع تاريخًا من الفشل المتكرر، فقط لكي نكون قد عرفنا طعم السم بألسنتنا ولمس النار على أعيننا لنرى هل سنصاب بالعمى!
هل يتعلق الأمر بشكل تقديم النصح؟ بمفهوم الوصاية؟ هذا شأن آخر ويستدعي رفضًا أو انتقادًا أو تفنيدًا له بمعزل عن قيمة النصح نفسها التي أجلها الدين وأكبرها وامتدحها “وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر”.
من ذلك أيضًا _الترويج للمفاهيم المغلوطة_ عبارة لاشك أن من أثارها أو روجها إبليس شخصيًا أو أبناؤه وأعوانه… تلك التي تتلوى في سفاهة ومكر لتقول أن كل داع لقيمة هو بالضرورة يفتقدها وأن ذلك دليل منقصة. هكذا..
لحظة تأمل واحدة لتلك المقولة الخبيثة يولد سلسلة من المفاهيم الكفيلة بالقضاء على كل خير في مجتمع ما… فالمفهوم هنا أن من تحدث عن قيمة عليا فهي ليست فيه، فاصمت عن القيم العليا حتى لا تتهم.. ويكون المثرثر بمفاهيم دنيا هو صاحب الفضيلة.. ويكون الشائع هو التشكيك في قيمة وأقدار وأعراض الداعين للصلاح، ورفعة شأن كل من دعا إلى السفاسف والسخف والرزائل…
هل كان منطلقها تناقض بعض المتحدثين بالفضائل في طباعهم؟.. فهذا شأن آخر، وحديث آخر، ولا يصح بالضرورة، بل في غالبه يتصيد الهفوات والعثرات، ويغض البصر بملئه عن عريض السوء في أهله وعن كبير الصلاح في أهله… وهو ما يتعارض كليًا مع ما أمر به الدين من أكثر من جانب.
“وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَاإِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ”.
من ذلك _التصورات المعكوسة_ أن التصالح مع النفس يعني الجهر بالمعصية، وأن إخفاءها من قبيل النفاق. وفي هذا تشويه ليس فقط للمفاهيم الدينية بل للفطرة السوية وللمجتمع ككل..
فرق بين من يخطئ فيستتر، وبين من يتخفى ليصر على المعصية..
أما الأول، فلن ينجو بشر أيًا من كان منه، ذلك أن “كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون”، فسيخطئ كل امرئ إذًا، إنما يبقيه نقيًا أن يتوب ويبقى على حيائه من الله عز وجل..
وأما الثاني فقد خلع رداء الحياء بينه وبين الله واكتفى بالتخفي من الناس ولا يعبؤ بنظر الله والعياذ بالله… فمن يحكم ومن يعلم ما بصدورهم؟! … وهل حقًا أن الجهر بالمعصية يطهر منها؟….. يبقى علم النفس علمًا تجريبيًا وربما نسبيًا في قواعده ونظرياته بل لابد لها أن تكون نسبية جدًا، فما يصلح لحالة قد لا يصلح لغيرها بل يفسدها وينكسها… وما أظن يصلح النفس إلا من علم بها، ومن أعلم بها من خالقها سبحانه “أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير”ُ … والله سبحانه هو من أعطانا هذه المفاتيح للنفس، التي تعلي قيمة جبر الكسور وإخفاء الجروح مع علاجها، وتذم من فعل إفشاء الفاحشة وتناقل أخبار السوء والمعاصي، حتى لا تهون على السامع ومن ثم لا يعود ينكرها وتصير غير منكرة في الناس.
“إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ”.
في الحديث الوارد بروايات عدة، وإن كان في إسناده ضعف إلا أنه صار مشاهدًا في واقع الناس، وإن صح فإنه من دلائل النبوة.. ذكر فيه أنه قال الرسول عليه الصلاة والسلام: “كيف بكم إذا لم تأمروا بالمعروف، ولم تنهوا عن المنكر ؟ قالوا: أوَ كائن ذلك يا رسول الله ؟ قال: وأشد منه سيكون…”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *