منزلة الحوار في المجتمع وعوائقه:
الحوار لغة إنسانيّة تهدف إلى تعزيز التّواصل بين البشر بهدف التّقارب الفكري أوّلاً، ثمّ بهدف التّواصل الاجتماعي فيتمكّن النّاس على اختلاف انتماءاتهم وأفكارهم أن يتقرّب بعضهم من بعض فيحيوا معاً بسلام محترماً الواحد الآخر. والحوار ليس اختراعاً وإنّما هو كلغة بشريّة حاضر في الكيان الإنساني، وإنّما يحتاج إلى تدريب وتوجيه كي لا يتحوّل إلى نزاع وصراع. في كلّ ما يجول في خاطرنا من مسائل شائكة وغير شائكة، وفي كلّ ما يدور حولنا من أحداث، ولأنّنا مختلفون بأفكارنا وانتماءاتنا وخبراتنا، فلا بدّ أن نستخدم هذه اللّغة البشريّة في سبيل التّقارب والتّلاقي حتّى يتأمّن لنا عيش سليم وصحّيّ. فالبشر على تنوّعهم أشبه بلوحة من الفسيفساء، كلّ حبّة فيها تجاور الأخرى المختلفة عنها بانسجام حتّى تكوّن لوحة فنّيّة إبداعيّة، أو أشبه بشجرة يانعة تتفرّع منها أغصان متباينة ومختلفة، إلّا أنّ الشّجرة واحدة وجذورها واحدة. كذلك هم البشر باختلاف أفكارهم ومقاصدهم وأهدافهم وتطلّعاتهم، إلّا أنّ جذورهم واحدة وبشريّتهم واحدة.
لا بدّ من الحوار، اللّغة الإنسانيّة، أن يدخل في صميم حياتنا وألّا يكون جزءاً منها فقط، كذلك يجب ألّا يكون محصوراً في فئة معيّنة أو طبقة معيّنة، وإنّما عليه أن يشمل كل فرد من المجتمع حتّى يتكامل. والمجتمع يبدأ بتشكيل نفسه داخل العائلة حيث يكتشف الفرد اختلافه مع الآخر ولو على نطاق ضيّق، ثمّ وبانتقاله إلى المجتمع الدّراسي يتبيّن اختلافاً أكبر مع محيطه حتّى يخلص إلى التّعايش مع الآخر في المجتمع الأكبر. وإن لم يتمرّس الفرد بشكل سليم وإنسانيّ على الحوار مع الآخر بهدف اللّقاء به إنسانيّاً ليتمكّن من العيش معه بسلام، وإن لم يتدرّب ومنذ الصّغر على احترام الاختلاف ومحاولة اكتشافه والحرص على التّعلّم منه وإفادته في آن، ليخلص الأفراد إلى بناء بعضهم البعض، فلا سبيل إلى عيش آمن وكريم، بل وعلى العكس سيضجّ المجتمع بالكثير من الفوضى والصّراعات والنّزاعات الّتي لا تؤول إلّا إلى تدمير الإنسان وبالتّالي تدمير المجتمع.
في المجتمعات الّتي ما زالت في طور النّمو الفكري كي لا نقول ما زالت غارقة في التّخلّف والجهل، يصعب على الإنسان أن يتقبّل الآخر كما هو، كما يعجز عن احترام فكره دون الاقتناع به. فقبول الآخر ما زال محصوراً في الذّهنيّة القبليّة المنغلقة على ذاتها، والّتي يشكّل الخوف من الآخر أهمّ عامل فيها، وبالتّالي فإمّا يمثّل الآخر الفكر عينه، وإمّا أن يصبح عدوّاً. ووجود عدوّ يفترض حرباً ودفاعاً مستميتاً عن النّفس في سبيل البقاء، وليس بالضّرورة أن تستخدم في هذه الحرب أسلحة فتّاكة، وإنّما ما يُستخدم فيها أخطر من ذلك بكثير، ألا وهو الجهل والكره الّذي يدمّر أجيالاً بكاملها وليس مجموعة قليلة فقط.
هذا الخوف النّاتج عن أسباب عدّة أهمّها قلّة الوعي الإنسانيّ بأنّ وجود الآخر المختلف عنّي لا يلغي وجودي، يساهم في حصر التّفكير الإنسانيّ في أمر واحد ألا وهو السّعي باستمرار للهجوم على الآخر، أو الحذر منه بشتّى الوسائل غير الحضاريّة وغير الإنسانيّة، وذلك باحتقاره ورذله، واعتباره درجة ثانية في المجتمع، أو حتّى اعتباره غير موجود أصلاً. ونشهد الكثير من هذه العنصريّة في مجتمعاتنا وإن ادّعينا العكس، ففي واقع الأمر، قلّة قليلة تسعى بشكل دؤوب وبصدق إلى احترام الآخر وقبوله كما هو وبالتّالي التّواصل معه بهدف اللّقاء الإنسانيّ والفكريّ. أما الغالبية فتسعى إلى التّحكّم والتّسلّط بالآخر المختلف عنها كي يبقى تحت سيطرتها ورحمتها حتّى لا يتجرّأ على معارضتها أو منافستها.
ولمّا كانت مجتمعاتنا تتكوّن من أطياف عدّة وانتماءات مختلفة وعقائد وأديان متنوعة، ولمّا كانت مجتمعاتنا تواجه الانفتاح برضاها وبغير رضاها، وتقاوم حضور الآخر المختلف، وجدت نفسها في حوارات لعلّها سعت إليها أو استخدمتها كبديل عن الصّراعات الدّمويّة، هدفها في الظّاهر التّحاور والتّواصل وأمّا غالباً ما يكون هدفها فرضاً للرّأي وربح جولات تصبّ في هدف واحد ألا وهو البقاء للأقوى. فمجتمعات لم تتربَّ على الحوار، ولم تتمرّس عليه، كيف لها أن تقنع في داخلها أنّ للآخر حقّاً في الوجود وحرّيّة في التّعبير والانتماء؟ وكيف لمجتمعات ترعرعت على الذّهنية القبليّة والعنصريّة أن تستحيل مجتمعات قادرة على احترام حرّيّة الفرد إلّا في حال حدوث ثورة فكريّة وثقافيّة لتغيير هذه الذّهنيّة؟ وهذا ما لم نشهده وربما لن نشهده في مجتمعاتنا العربيّة على الرّغم من وجود قلّة تتوق إلى ذلك وتحمل في داخلها طاقة للتّغيير.
– أسباب الإخفاق في الحوار بين الأديان وأخطار هذا الإخفاق:
تندرج ضمن هذه الحوارات، الحوارات الدّينيّة، الّتي من المفترض أن تحدث في سبيل التّعايش المشترك بسلام ومحبّة، إلّا أنّها تتّخذ منحىً آخر يدخل في إطار حروب صغيرة ولكنّ فعلها كبير، إذ إنّها تحمل بعمقها الكثير من الصّراعات والنّزاعات، واستدعاء للتّاريخ البغيض الّتي مرّت به الأديان من حروب باسم الدّين وباسم الله، بهدف السّلطة والتّسلّط.
لا يخلو أي دين من الأخطاء التّاريخيّة على مستوى الأشخاص وخاصّة رجال الدّين، ومن السّخف أن نرى اليوم نزاعات وصراعات وحروباً على تاريخ مضى، ومحاسبة إنسان اليوم على ما فعله أسلافه، بدل التّطلّع إلى المستقبل والبحث فيه عن نافذة يتنسّم منها هواء المحبّة والسّلام. والأجدر بكلّ متديّن، وبدل أن يزايد على متديّن آخر، أن يسعى بكلّ طاقته إلى العيش معه إنسانيّاً بعيداً عن التّعصّب الإيمانيّ. فالدّين أمر شخصيّ وله خصوصيّة لا يجوز المسّ بها من ناحية، كما لا يجوز فرضها من ناحية أخرى. وبما أنّ التّاريخ يشهد على أنّ لم يخلُ أي دين من الأخطاء ومن العنف، فلا بدّ من قراءته برؤية أخرى، وبقلب منفتح يدعو للمحبّة والمحبّة فقط. كما أنّه لا ينبغي أن تكون قراءة التّاريخ غرائزيّة وإنّما وجب أن تكون قراءة معلوماتيّة تصبّ في المعرفة فقط، وتنحصر في العقل فقط، كي يتعلّم الإنسان من أخطائه ويصوّب مسار التّاريخ الجديد، بل ويصنع تاريخاً جديداً يؤمّن العيش الكريم ويحافظ على كرامة الإنسان.
يكفي أن نجول على القنوات الفضائيّة وصفحات التّواصل الاجتماعي لنشهد نموذجاً عن هذه الحوارات أو ما يسمّى بالحوارات، في حين أنها نقد لاذع وجارح واستفزاز لغرائز النّاس وغياب للعقل المستنير والقلب المحبّ والمفعم بالإنسانيّة. هناك فرق شاسع بين ما نشاهده ونراه ونقرأه وبين ما هو حوار كلغة إنسانيّة، يرتقي إلى طرح الفكر والفكر المقابل ثمّ محاولة التّقارب بغضّ النّظر عن الدّخول في هذا الحوار بهدف الإقناع القصري.
البعض يعتبر أنّه من حقّ الإنسان أن ينتقد ما يشاء، وهذا حقّ، ولكن بالمقابل ليكن النّقد موضوعيّاً بعيداً عن التّجريح وإهانة الآخر، وليكن نقداً مستساغاً ولا نقول مراوغاً، فالكلمة الطّيّبة النّابعة من قلب محبّ وعقل حكيم تقرّب بين النّاس بدل أن يتحوّل الحوار إلى ردود أفعال ورشق بالاتّهامات. ناهيك عن المناظرات الإعلاميّة الموجّهة، فكما أنّ الإعلام موجّه سياسيّاً، فلا ريب أنّه موجّه دينيّاً. ففي مجتمعاتنا السياسة والدّين في خندق واحد، بحيث أنّ الأولى تستخدم الدّين كوسيلة ضغط وسلاح قويّ وخطير تحكم به السّيطرة. والثّاني، ألا وهو الدّين، يستخدم السّياسة في سبيل التّسلّط والسّيطرة. وأمّا المناظرات الدّينيّة الّتي نشاهدها ونستمع إليها ففيها الكثير من الالتباس، حتّى وإن كان أغلب المناظرين على درجة عالية من العلم والفقه في الدّين.
لكلّ دين خصوصيّته وأسلوبه وفكره الخاص، ولا ينبغي قراءة فكر دينيّ بحسب المفهوم الشّخصيّ، بمعنى أنّه لا يجوز خلط المعاني في الكتب المقدّسة. فعلى سبيل المثال، لا نقرأ الكتاب المقدّس كما القرآن الكريم والعكس صحيح، فكيف لداعية مسلم أن يشرح الكتاب المقدّس متغاضياً عن المنهج المعتمد لقراءته، وكيف لكاهن مسيحيّ أو قسّ أن يشرح القرآن الكريم بعيداً عن المعنيين به؟ ولا ريب أنّ هذه المناظرات بغالبيّتها لها خلفيّات سياسيّة، وقد تبرّر أحياناً على أنّها دفاع عن الدّين. ومن الجدير أن نتساءل عن سبب الخوف على الدّين، أي دين، طالما أنّ الله هو من يرعاه. ومن الحريّ أن نراجع مسألة الخوف هذه، فمن يخاف على دينه من الاندثار هو من يعتبر من حيث يدري أو لا يدري أنّ دينه ضعيف. وإذا كان الدّين أمراً إلهيّاً، فلا داعي للدّفاع عنه بل من الأفضل نشره بمحبّة وبرقيّ بشتّى الوسائل الحضاريّة.
بالمقابل، فإنّ الحوارات الدّينيّة، تتطلّب الكثير من الحكمة والصّدق وعدم المراوغة، وبالتّالي على المتحاورين أن يتحلّوا بآفاق واسعة، متقبّلين فكر الآخر وإيمانه برحابة صدر، دونما اعتبار الموضوع مساساً بالكرامة الشّخصيّة، وإلّا فلا داعي للدّخول في هذه الحوارات.
ولا تقتصر هذه الحوارات على المؤمنين المختلفين وحسب وإنّما كذلك على المؤمنين والملحدين واللّادينيّن، وهنا أيضاً يستحيل الحوار الّذي بدأ كلغة تواصل إلى عراك شرس وغير إنسانيّ.
– الحوار بين مؤمن ومؤمن مختلف:
قمّة الرّقيّ الإنسانيّ تكمن في أن يتحاور طرفان بعضهما مع بعض ويبلوران أفكارهما ويناقشانها دونما أن يكون الواحد مقتنعاً بفكر الآخر. ويندر وجود متحاورين من أديان مختلفة يرتقون إلى مستوى الحوار كلقاء إنسانيّ بعيداً عن الخلافات العقائديّة والتّاريخيّة. فبعض هذه الحوارات، إمّا أن تنتهي بتراشق كلاميّ وإمّا أنها تتضمّن محاولات استفزاز قد تكون لا شعوريّة وغير مخطّط لها، فيصبح الحوار عقيماً وصعباً.
ومن الأسباب الّتي تحول دون الارتقاء بالحوار، النّيّة في إجراء الحوار:
من أصول الحوار الإنساني، وكي ينجح الحوار، لا بدّ أن يدخله الطّرفان بدون أحكام مسبقة، وبدون أن يجتهدا في سبيل أن يقنع الواحد الآخر بهدف الهداية إلى الحقّ. لأنّه إن كان الهدف هو الإقناع بالدّرجة الأولى، فسوف يصعب الحوار بينهما لأنّ لكلّ طرف قناعاته وثوابته، خاصّة أنّ ثوابت الدّين غير قابلة للتّبدّل والتّغيير. ناهيك عن الاستشهاد بالنّصوص الكتابيّة، علماً أنّ كلّاً من الطرفين له تحفّظات على كتاب الآخر إن من حيث مصداقيّة النّصوص وإن من حيث إثبات الوحي الكتابي. وبالتّالي فالدّخول في الإثبات والنّفي يحول دون التّلاقي الإنساني أو البحث عمّا يجمع بين المتحاورين. إلّا أنّه في عمق كلّ متديّن رغبة في اكتساب الآخر في صفّه وضمّه إلى جماعته المؤمنة، باعتبار أنّه على الدّين الحقّ، إمّا بدافع المحبّة وإمّا بدافع التّبجّح. إن كان بدافع المحبّة فهذا جيّد، مع العلم أنّ ما نشاهده من إعلانات عن اهتداء الأشخاص إلى دين معيّن وارتدادهم عن دينهم الأصلي، يعبّر عن تبجّح بانتصارات غريبة.
الحوار لا يعني التّبشير، كما أنّه لا يعني هداية النّاس، فالحوار هو عرض العقيدة وما تضمّنه ومناقشة الأمور الفقهيّة واللّاهوتيّة وتصحيح مفاهيم خاطئة. وأمّا التّبشير فهو تجسيد العقيدة وجوهرها في السّلوك والحياة، فيكفي أن يرى النّاس أعمال المتديّن ليقرّروا إذا ما كانت تعبّر عن محبّة الله فيمجّدونه.
ولمّا كان في عمق كلّ متديّن هذه الرّغبة بالهداية، ولأنّنا ما زلنا بعيدين عن الحرّيّة الإيمانيّة الحقيقيّة، ونحتكر لأنفسنا الحقيقة الكاملة، كما نعتبر أنّ الله ملك طائفة أو مذهب معيّن، فمن الأفضل عدم الدّخول في حوارات دينيّة، مكتفين باحترام الآخر وعقيدته.
– الحوار بين مؤمن وملحد:
قد يكون الحوار الّذي يدور بين مؤمنين مختلفين منطقيّاً أكثر من ذاك الّذي يدور بين مؤمن وملحد. فالمؤمنين على تنوّعهم ينطلقون من مبدأ واحد، هو الله. وأمّا الملحد فلا يعنيه هذا المبدأ ولا يعترف بوجوده. ويبدو من غير المنطقيّ محاورة ملحد بالاستشهاد بآيات من الكتب المقدّسة، أو الحديث عن معجزات، في حين أنّه لا يعتبر الأولى آيات ولا يريد من الثّانية إلّا أدلّة علميّة بحتة يقتنع بها العقل والمنطق.
يقرأ الملحد ما يعتبره المؤمن كتاباً مقدّساً قراءة علميّة، وتاريخيّة معتمداً على دراسة الأحداث بشكل علميّ ومنطقي. أمّا المؤمن فيقرأ كتابه حقيقة إيمانيّة أوّلاً، مصدّقاً ومقتنعاً بحقيقة إيمانه، وهذا لا يعني أنّ المؤمن هو شخص غير منطقي، ولكنّ الإيمان هو تصديق ما لا يرى، وهذا ما يرفضه الملحد. فكيف لمن يصدّق ما لا يرى، أن يتحاور مع من لا يصدّق إلّا ما يرى؟
بالمقابل، غالباً ما يرفض المؤمن حقّ الملحد بالبحث عن الحقيقة، وبحقّه في حرّيّة التّعبير عن هواجسه وقلقه. فيرذله ويعامله بدونيّة، وحتّى يذهب في بعض المجتمعات إلى تهديده بحياته، وقتله. وبالتالي ينتفي الحوار بين المؤمن والملحد إلّا إذا كان لقاء إنسانيّاً، يعبّر فيه الواحد للآخر عن فكره، ويبحثان معاً عمّا يجمعهما. وما يجمع أكثر بكثير ممّا يفرّق، ويكفي أنّ الجامع الأقوى بينهما هو الإنسانيّة.
– الحوار الدّيني نعمة أم نقمة؟
انطلاقاً ممّا سبق، وبناء عليه نجد أنّ المسمّى حواراً بين الأديان يصبح عقيماً ويتحوّل إلى صراع وبالتّالي تنتفي عنه صفته الحواريّة، فهل نتخلّى عن هذه الحوارات؟ وهل نرفض الدّخول فيها تجنّباً للنّزاعات والصّراعات؟
الحوار بين الأديان حاجة ملحّة نظراً للصّراعات الحضاريّة والتّاريخيّة، إلّا أنّه يبقى نظريّة طالما لم يجسّد عمليّاً من خلال السّلوك الحياتيّ. والمنظّمات واللّجان والمؤسّسات والمثقّفين المساهمين في نشر هذه الثّقافة يتواجهون اليوم مع الجماعات الدّينيّة المتطرّفة الدّمويّة الّتي خلقتها السياسات العالميّة في سبيل تغذية الفكر العنصريّ والقبلي وتدمير الفكر الدّيني. وهنا يفقد الحوار قيمته ويستعاض عنه بمقاومة هذه الجماعات الخطيرة خاصّة أنّها بغالبيّتها تعتمد العنف فهل يمكن التّحاور مع السّلاح؟
بالمقابل، ولأنّ الحوار حاجة ملحّة وضروريّة، فلنسعَ إلى حوار كلقاء إنسانيّ. واللّقاء الإنسانيّ يحتّم التّنازل عن الخوف من الآخر أوّلاً، والتّعامل مع هوّيّته الإنسانيّة بغضّ النّظر عن عقيدته وانتمائه. واحترام حرّيّة الفرد في اعتناق الدّين الّذي يريده أو عدم اعتناق أي دين ثانياً، والتّخلّي عن القيام بعمل الله. فالمؤمن ليس موكلاً بأن يحلّ مكان الله في لمس القلوب وهدايتها، وإنّما وبإيمانه الواعي والصّادق، يعكس صورة الله المحبّة. والاقتناع بأنّ لا أحد يملك الحقيقة الكاملة ثالثاً، وبذلك نسعى معاً لبلوغها. فإن كان كلّ منّا يسلك دروباً مختلفة للوصول إلى الحقيقة، إلّا أنّ الحقيقة واحدة. واحترام الحقّ الإنساني رابعاً، والاعتراف بوجوده كإنسان وتحديد قيمته الإنسانيّة بذاتها وليس بحسب انتمائها الدّينيّ. فلا فضل لأحد على أحد إلّا بالمحبّة. وأخيراً، عدم اعتبار جماعة دينيّة معيّنة أفضل من أخرى، لأنّ هذا المنهج التّفكيريّ يحبّذ فكرة الدّونيّة ويحثّ على الصّراعات والنّزاعات، وهكذا نبقى تائهين في دوامة من العنف حتّى نفني بعضنا البعض.
لنلقِ نظرة عابرة على المجتمعات المتحضّرة ولنتبيّن مواطن الإيجابيّة فيها، ولعلّ أبرزها اعتبار الدّين أمراً شخصيّا ولا يمنح أفضليّة لفرد على آخر. وبذلك يتبرهن لنا، أنّ الصّراعات الدّينيّة المقيتة لا تصلح إلّا لتدمير المجتمعات والحؤول بينها وبين التّقدّم والتطوّر الإنسانيّ.