عمرو حمزاوي يكتب… “قيمة الحقيقة والعدل..!!”

(1)
وهى تقتل وتسجن وتعذب وتقمع وتمارس الاستعلاء على كرامة المواطن الإنسانية وعلى نزوعه الأصيل للحرية والمبادرة الفردية وتتورط فى تزييف وعى الناس وتفرض الخوف نسقا عاما للحياة وللوجود، تظن نظم الحكم المستبدة أنها ستفلت بكل جرائمها دون أن يأتى اليوم الذى تتحرر فيه الشعوب من الخوف وتدرك حقيقة الاستبداد الصادمة وتنشد العدل عبر كشف وتوثيق الجرائم ثم عبر مساءلة ومحاسبة مرتكبيها وإنصاف الضحايا الذين كثيرا ما يبحثون (هم أو ذووهم) عن الاعتراف المجتمعى بالمظالم والانتهاكات التى ألحقت بهم والاعتذار العلنى عن الأضرار البالغة التى أصابتهم. وللأسف الشديد، لا يدحض المعلوم من التاريخ القديم والحديث للبشرية ظن المستبدين.
(2)
وﻷن البشرية قديما وحديثا لم تبرأ أبدا من تحايلها المريض على القيم الأخلاقية السامية التى صاغتها ووضعتها هى وادعت دوما الالتزام بها، وﻷن البشرية قديما وحديثا لم تتخلص أبدا من معاييرها المزدوجة التى بمقتضاها تقر حقوق وحريات للبعض، بينما تنفيها أو تلغيها أو تمنعها عن البعض الآخر، وﻷن البشرية قديما وحديثا لم تتجاوز أبدا رغبة «البداية» فى الخلاص من الخطايا الكبرى عبر الإنكار الشامل أو الاعتراف الجزئى والتقليل من الأهمية؛ أسال المستبدون هنا وهناك دماء الأبرياء وارتكب أعوانهم (أفراد أو جماعات أو نخب أو مؤسسات وأجهزة أو جماهير مدفوعة بالكراهية والعنف والهيستيريا) جرائم إبادة وجرائم تصفية وجرائم ضد الإنسانية وحفرت القبور الجماعية، حيث ألقيت الجثث والأشلاء وسويت بأديم الأرض أحلام الضعفاء والمهمشين ومعارضى الاستبداد، ومر كل ذلك دون كشف أو توثيق، دون مساءلة ومحاسبة، دون تفكيك لممارسات الإنكار الرسمى وسياسات الاعتراف الجزئى حتى حين أضحى الاستبداد ماضيا، وبعد أن انفتحت بعض الشعوب على الديمقراطية وسيادة القانون.
(3)
بل إن الاستمرارية الزمنية للكثير من نظم الاستبداد وتعاقب مراحلها ــ حتى حين تحدث ثورات أو انتفاضات الشعوب أو الأزمات المجتمعية الحادة أو تقلبات السياسة العالمية ونهايات الحروب والصراعات والمواجهات العسكرية شيئا من الانقطاع فى استمرارية سطوة المستبدين بمصائر الشعوب، وتضع الناس أمام فرصة ممارسة حق الاختيار واختبار الديمقراطية وسيادة القانون سرعان ما تنقضى ويغلق هامشها ــ يصنع للإفلات من جرائم الاستبداد طبقات متراكمة تكتسب تدريجيا خصائص التركيبات الصخرية التى يصعب الوصول إليها فى جوف الأرض. قبور جماعية تقذف إليها الجثث والأشلاء مطموسة الهوية تعلوها قبور جماعية أخرى تقذف إليها جثث وأشلاء من قتلوا وأجرموا بحق الأولين، تماثيل الحكام المستبدين التى ما أن تهدم حتى تعقبها تماثيل لمستبدين جدد، يشيد نصب تذكارى تلو الآخر لتخليد ذكرى ضحايا المذابح والإبادة والتصفية والمظالم والانتهاكات دون أن يساءل ويحاسب المجرمون، دون أن تتوقف الجرائم، دون أن تكشف الحقيقة وتوثق، ممارسة للنفاق الرسمى والمجتمعى دون تمهل أو تدبر أو نظرة نقدية أو استخلاص للعبر.
(4)
ربما لم يعد عبث نظم الاستبداد وعبث المستبدين بقيمة الحقيقة والعدل يفاجئ الشعوب المقهورة، ربما لم تعد الأغلبيات تلمح فى تورطها فى الجرائم وإفلاتها من العقاب واستعلائها على الكرامة الإنسانية سوى شرور أضحت ظواهر اعتيادية لا ينبغى إزاءها غير حماية الذات والأهل والمصالح الخاصة، ربما يعطل تراكم طبقات جرائم الاستبداد ضمائرنا ويجردنا من كل ادعاء أخلاقى وإنسانى نرغب فى التشدق به أحيانا وننحيه جانبا فى أحيان أخرى. إلا أن عبث الديمقراطيات بقيمة الحقيقة والعدل يصدم ويحبط ويورث اليأس؛ أليست الولايات المتحدة الأمريكية بعاجزة إلى اليوم عن الاعتراف الكامل بجرائم إبادة السكان الأصليين وجرائم تصفية من جلبوا كعبيد من القارة الأفريقية والمظالم والانتهاكات ذات الخلفية العنصرية بحقهم حتى حين أقرت حقوق المواطنة المتساوية؟ أليست الولايات المتحدة بعاجزة أيضا عن الاعتراف الشامل والاعتذار عن الجرائم التى تورطت بها جيوشها منذ النصف الثانى للقرن العشرين والتى لم تبدأ مع الحرب على فيتنام ولم تنته مع المأساة العراقية؟ هل تخلى الأوروبيون عن تبرير الاستعمار وجرائمه واستغلاله بمقولات عبء رجل الأبيض وحتميات تطور الاقتصاد العالمى؟ ألم تمتنع الحكومات المتعاقبة لدولة اليابان التى أسست ديمقراطيا بعد الهزيمة العسكرية فى الحرب العالمية الثانية عن الاعتراف بالمذابح والإبادة الجماعية والجرائم والمظالم والانتهاكات المروعة التى تورط بها جيش الإمبراطور فى ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين ورفضت الاعتذار من الشعوب الآسيوية عن جرمها التاريخى؟ هل ثمة اختلاف بين الإنكار الرسمى للحكومة التركية المنتخبة اليوم ديمقراطيا لمذابح الأرمن وبين الإنكار الرسمى لحكومات الماضى السلطوى والمستبد؟
(5)
تمكنت بعض الشعوب من الانتصار لقيمة الحقيقة والعدل، مارست المساءلة والمحاسبة وإنصاف الضحايا عبر الاعتراف والاعتذار، كشفت ووثقت جرائم الماضى وأسست لثقافة تذكر وتسامح ودفاع دائم عن الأنساق والقيم الأخلاقية التى أنكرتها سابقا وأرست دعائم ضمان الالتزام بها دستوريا وقانونيا ومجتمعيا وسياسيا، ألحقت تشييد كل نصب تذكارى لتخليد ضحايا الاستبداد ببناء متاحف لتمرير الحقيقة لأجيال الحاضر وبتأسيس مراكز ثقافية تعلمهم المسئولية المجتمعية ومسئولية المواطن عن رفض الجرائم والمظالم والانتهاكات وباعتماد مناهج مدرسية وجامعية تعمق من احترام المساواة وقبول الآخر ومن ثم ممارسة التسامح. هكذا أبدع المجتمع الألمانى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ــ فى مرحلة أولى جوهرها المساءلة والمحاسبة القانونية دون عقاب جماعى استمرت إلى نهاية ستينيات القرن العشرين ثم فى مرحلة ثانية، للتطهر من استبداد وظلم النازى والدفاع عن الحقيقة والعدل الديمقراطية متواصلة إلى اليوم، هكذا تخطو جنوب أفريقيا بثبات مجتمعى وسياسى مبهرين منذ وجد نظام الفصل العنصرى نهايته فى تسعينيات القرن العشرين، هكذا تدير شيلى على نحو أفضل من غيرها من جمهوريات أمريكا اللاتينية ملفات ماضى انتهاكات الحقوق والحريات وملفات التوثيق والمحاسبة والإنصاف.
(6)
أما مصر، فنحن جميعا شهود العيان على إهدار القيم الأخلاقية السامية وعلى تعطيل الضمائر بفعل القمع والخوف، وعلى إخفاق المساءلة والمحاسبة وإنصاف ضحايا المظالم والانتهاكات، وعلى إغلاق الهامش الزمنى المحدود الذى أتاحه يناير 2011 لكشف وتوثيق جرائم السلطوية الممتدة منذ خمسينيات القرن العشرين والتى لم تتوقف ولا توقف إفلاتها من العقاب بعد يناير 2011، نحن جميعا شهود استمرارية الاستبداد التى أنتجت ماسبيرو ومحمد محمود والاتحادية ورابعة وشوهت تقارير تقصى الحقائق، نحن جميعا شهود نحر الحقيقة والعدل على مذابح الفاشية وهيستيريا العقاب الجماعى وحكم الفرد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *