أخبار عاجلة

مواقف من التراث.. «بين العقل والإيمان»

وأفضوا القول في تواتر الأخبار، إن الخبر المتواتر أصل من أصول العلوم، شريطة أن يستوفي التواتر الصحيح أركانه.
كل هذا مؤدٍ إلي تربية عقلية يحتاجها المثقف كائناً ما كان عصره، ولكن تطورت العلوم ومناهجها وطرق البحث فيها تطوراً لم يكن ليحلم به أحد من الأولين.. والغريب هنا أن نظريات العلوم الطبيعية وقوانينها لا علاقة لها بكون العالم أزلياً أو أنه مخلوق.. بل ماذا سوف يتغير من نظريات العلوم وقوانينها أن تعرف صانع العالم «المولي عز وجل» وصفاته وأسماءه وعدله وحكمته ورسله وأنبياءه.
ولكي أكون واضحاً في هذا الموضوع فلست أعني علي الإطلاق ألا نؤمن بالله سبحانه وتعالي خالق السموات والأرض، ولكن هذا الإيمان «بأني أشهد أن لا إله إلا الله وإن سيدنا محمد رسول الله» شيء والعلوم الطبيعية والرياضيات وميادينها وقوانينها شيء آخر.. فقد يكون أعلم علماء الأرض مؤمناً وقد لا يكون عارفاً بصانع الكون أو جاهلاً به «والأمثلة علي ذلك في عالمنا كثيرة».
إن شريطة معرفة الذات الإلهي، ضرورة حتمية حين يكون معني العلم التفقه في الدين وأحكام الشريعة وفي المعاملات بين الناس، وأما حين يكون معناه الكشف عن قوانين الضوء والصوت والكهرباء وعلوم الذرة، ثم تطبيق هذا الكشف كما نراه اليوم، فعندئذ لا شأن للإيمان الديني به إلا في الاعتراف بقدرة الله سبحانه وتعالي علي خلق العقول.
وفي هذه التفرقة يمكن أن نصل إلي أهم الأصول الهادية حين نتحدث عن المعاصرة «العلوم وتقنياتها وتطبيقاتها» والإيمان الديني، لأن المعاصرة لا تتنافي ولا تتأيد بالإيمان الديني، فنجد الجهمية – جماعة نسبة إلي جهم بن صفوان – «المتشددين من أهل الإسلام» كما وصفهم عبدالقاهر البغدادي، في كتابه «الفرق بين الفرق» يقفون في طرف اليمين المحافظ، علي حين وقفت جماعة المعتزلة علي أن تأويل آيات القرآن الكريم لتتفق مع أحكام العقل، أصر الجهمية أن يتمسكوا بحرفية النصوص، وقالوا نؤمن بما ورد به الكتاب والسنة، ولا نتعرض للتأويل وقد أمسكوا عن تفسير الآيات وتأويلها لأمرين.
أولهما: المنع الوارد في التنزيل من قوله سبحانه وتعالي (وما يعلم تأويله إلا الله) «سورة آل عمران: 7».
والثاني هو أن التأويل أمر مظنون بالاتفاق، ولا يجوز القول بالظن في صفات الله سبحانه وتعالي فها نحن أمام فكرين: أحدهما يلتزم النص ويعطل صلاحية العقل الإنساني للتأويل والتفسير، والآخر يعتمد كل الاعتماد علي العقل هادياً في فهم التنزيل بتفسيره وتأويله، إلا أن «هنري كوربان» في كتابه «تاريخ الفلسفة الإسلامية» قد طرح موقفاً وسطياً بين الطرفين مستنداً إلي النظامية.. وهم أتباع إبراهيم بن سيار النظام، وانتهي إلي ألا نجعل العقل كل شيء كما أراد المعتزلة، وألا نجعل الإيمان بالنص وحرفياته كل شيء كما أراد الجهمية.
فمن جهة العقل وحده لا يكفي لدعم الدين، كما ظن المعتزلة وذلك لأن الإيمان بالغيب مثلاً مبدأ أصيل في الحياة الدينية، ولكن الغيب يتجاوز حدود البرهان العقلي، وعليه فالعقل وحده لا يكفي، فلماذا إذن لا نجعل المسألة مشاركة بين العقل والإيمان معاً.. وكان لأبي حامد الغزالي موقف شبيه بهذا في مدي ما يتركه للعقل حيال النص القرآني، فللعقل ما يستطيعه من تحليل وتفسير وتأويل، والإيمان ما تقتضيه مبادئ الدين وأصوله، مما يتجاوز حدود العقل، وبهذا يكون لكل من العقل والإيمان ميدان وينحسم كل الخلاف.
فالقول واضح: صحوا نومكم يا أهل هذا العصر! لقد حل أسلافنا العقدة منذ قديم الزمان، فضرب من الخمول الفكري، لو كان ليطول معناه بقاؤه، فلا أظن أن الأمل قريب في نهوضنا نهوضاً بالفعل لا بالكلام، وبالفكر الحي لا بالتثاؤب ونحن نيام، فقد يكون اللفظة واحدة ومضمونها مختلفاً علي ألسنة المعاصرين، عنه علي ألسنة الأولين.
هذا هو نفسه الموقف الذي أريده لأبناء عصرنا بعد الثورة، أن يستخلصوه من تراثهم، وهو ألا يجعلوا بين العقل والإيمان تعارضاً، بل يجعلوا بينهما تعاوناً في كل المجالات الحياتية، للوصول إلي هدف واحد، فلكل من الأداتين قسطها من الفهم وتنظيم السلوك الإنساني، فإذا شئنا أن يكون لنا موقف نستمده من تراثنا الإسلامي الأصيل، فلنجعل الدين موكلاً إلي الإيمان ونجعل العلم موكلاً إلي العقل، دون أن نحاول امتداد أي من الطرفين ليتدخل في شئون الآخر.
وقتها يستريح الجميع ونمضي صوب أهدافنا التقدمية نلحق بها المعاصرة، فإن هي فلحت في خدمة تلك الأهداف – كان بها – وإلا نبدلها بسواها حتي نقع علي أنفع المبادئ لحياتنا العلمية والدينية وتستكمل مسيرة ثورتنا التي بدأناها من أجل مصر آمنة مطمئنة تعتلي مكانتها بين الأمم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *