أخبار عاجلة

محمود عابدين يكتب… وخز الضمير.. لعل وعسى

من آن لآخر، أجد نفسي أبحث فيما سبق وكتبته عن تراثنا الأثري العظيم، تراثنا الذي يثبت يوم بعد يوم أن المصري القديم كان وما زال القدوة والمثل في: الرقي الحضاري والإنساني بكل أشكاله وأنواعه، أكتب ذلك عن اقتناع وإيمان ممهورين بشهادة الأجانب.
الجملة الشهيرة التي نطق بها رئيس جمهورية فيتنام الاشتراكية السيد المحترم “تران داي كوانج” عندما وقف يوم 29 أغسطس 2018 أمام الهرم الأكبر وقال كلماته الخالدة:
– “المصرى الذي شيدك.. قادر على قهر المستحيل”.. شهادة الرئيس الفيتنامي بحق حضارتنا، تُؤكد أن الأجانب يعرفون جيدا قيمة حضارتنا وتاريخنا أكثر منا للأسف الشديد، وأعتقد أنني كتبت عن هذه الزيارة راجيا وزارات: الآثار والخارجية والسياحة بألا تمر هذه الزيارة مرور الكرام، وقلت حينها بان “الـدرر” التي خرجت من فم هذا الرئيس وغيره من رؤساء وعلماء وفناني ورياضيي العالم، فضلا عن المتخصصين في الآثار والمحبين لها وللتاريخ وغير المتخصصين بحق عبقرية قدماء المصرين في: البناء والفلك والطب والرياضيات و…. لم تأت من فراغ، بل جاءت عن إعجاب وعلم ودراسة واقتناع بعظمة أجدادنا الذين شيدوا هيكل الهرم الأكبر البالغ من العمر 4500 سنة دون أن يستخدموا التكنولوجيا الحديثة !!!
بصراحة، إن ما جادت به حضارتنا المصرية القديمة حتى الآن، قمة الإعجاز العلمي منذ الخليقة وحتى اللحظة، وهو اللغز الذي كان ومازال يُحير العلماء والباحثين والدارسين، وحتى العامة على مر العصور، وهذا ما اعترف به وأقره المهندس المعماري الأمريكي “غلين داش”، والذى يعكف منذ زمن بعيد وحتى الآن على فك طلاسم وأسرار أهرامات الجيزة، معتقداً إن أجدادنا استخدموا تقنية “طريقة الدائرة الهندية” لوضع أساس أهم عجائب الدنيا من خلال تثبيتهم نقاطا معلومة للشمس وقت اعتدال الخريف، وهو اليوم الذي يتساوي فيه الليل بالنهار بين الصيف والشتاء، وهنا يطرح السؤال نفسه:
– من أين أتى أجدادنا بكل هذه العلوم وتفردوا بها عن سكان الكرة الأرضية؟!.. والإجابة ببساطة شديدة جداً سنجد جزء كبير منها في كتاب ” فجر الضمير” لعالم الآثار والمصريات البروفيسور الأمريكي جيمس هنرى بريستد، والذي تحمل عبء وأمانة ترجمته عالم الآثار المصري البروفيسور سليم حسن – صاحب موسوعة «مصر القديمة»، ولعلنا بهذا الكتاب نضع أيدينا على حقيقة ما أصابنا عن عمد.. فيقول “بريستد”:
– إن ضمير الإنسانية بدأ فى التشكل من مصر قبل أى بلد فى العالم، مؤكدا أن المصري القديم شعر لأول مرة بنداء الضمير، ومن ثم استيقظ معه الضمير الإنساني بمصر وترعرع، وفي مصر تكونت الأخلاق النفسية، وطوال مليون سنة طور الإنسان خلالها سلاحه فبدأ بــ «البلطة» وانتهى بالقنابل الذرية، فالإنسان إذن من مليون سنة استطاع تحطيم رأس أخيه الإنسان بهذه «البلطة»، أما الآن فإن بمقدوره إبادة ملايين البشر بقنبلة واحدة وفى ثوان معدودات، وما فعلته أمريكا في “نجازاكي وهيروشيما” باليابان عنا ببعيد، وينصح “بريستد” العالم أجمع بالعودة إلى ما قبل 5000 سنة لتعلم الأخلاق ورقيها على يد ما تركه أجدادنا القدماء أبناء نهر النيل؛ لذا كان شاعرنا الكبير أحمد شوقى محقاً حين خاطب النيل قائلا:
– “أصل الحضارة فى صعيدك راسخ.. ونباتها حسن عليك مخلق.. ولدت فكنت المهد.. ثم ترعرعت فأظلها منك الحفىّ المشفق”، لذا يجب علينا التذكر دائما وأبدا بأننا ننتمى إلى أمة عظيمة تستحق منا أن نعمل على إعادة مجدها بكل الطرق الممكنة وغير الممكنة، فعيب علينا أن نترك حقنا في الحياة بيد عدو لدود تربى على الحقد والبغض لمصر التاريخ والحضارة والجغرافية والإنسان، عدو يريد لشعبنا الموت والدمار والخراب بالتحكم في شريان الحياة الذي يأتينا منذ آلاف السنين من منبعه الأصلي.
وللتأكيد على ما سبق، يجب الإشارة إلى أن أجدادنا القدماء في عصر ما قبل التاريخ، أقاموا مجتمعهم بجانب القيم والأخلاق والضمير، على الاستقرار الذاتي وتلبية كافة احتياجاتهم الغذائية من: نبات الأرض والحيوان بعد أن استطاعوا تأنيسه، وهذا هو الثابت تاريخيا وأثريا منذ عصر مينا – موحد الشمال والجنوب – كما نجح قدماء المصريين نجاحا باهرا في تأسيس حكومة مركزية قوية، وكان نهر النيل بفيضانه وانحساره ودوران ريه، من أهم الركائز الأساسية لهذه الدولة المركزية، وهذه رسالة أخري إلى أشقاءنا الأفارقة بخصوص سد الخراب الذي تُصر القيادة الإثيوبية على استكمال بنائه دون قيد أو شرط من الجانب المصري، في إشارة واضحة إلى خلق تاريخ جديد من العداء والصراع لا يُحمد عقباه، ونسيت أو تناست ربما هذه القيادة المدعومة من أعدائنا حقنا التاريخي في مياه النيل.
نعود مرة أخرى إلى ما استشهد به أيضا د. سليم حسن – عميد الأثريين المصريين – في ترجمته لكتاب “بريستد”، عندما أكد على أن ” مصر أصل حضارة العالم ومهدها الأول، ومن يعتقد أن أجدادنا القدماء اهتدوا إلى أن حضارتهم بدون قيم، فاعتقاده أجوف ولا قيمة له، فكم من حضارات انهارت، بل وأصبحت نسيًا منسيًّا، لذا حرص المصري القديم على وضع مجموعة من القيم والمبادئ التي تحكم إطار حياته، فكان أهم ما في وصية الأب للابن قبل وفاته هي الجانب الأخلاقي، حيث نجد الكثير من الحكماء والكهنة والحكام القدماء يوصون أبناءهم بالعدل والتقوى، كما كانوا يحرصون على توضيح خلود تلك القيم في عالم الموت، لذا نحتوا على جدران مقابرهم رمز إلهة العدل «ماعت» ليتذكروا أن عملهم باقٍ معهم في عالم الخلود.
وبحيادية العالم في أبحاثه وبأمانة علمية مشهود لها وبها، يوثق “برستد” بعض أخلاقيات أجدادنا القدماء في عدة جمل على لسان حكمائهم فيقول:
– “كانوا يعترفون بفضل الرجل الذي يتخذ العدالة نبراسا له”، وأن “فضيلة الرجل المستقيم أحب عند الله من ثور الرجل الظالم”، وإن “العدالة خالدة الذكرى تنزل مع من يقيمها إلى القبر ويذكر اسم صاحبها على مر السنين بسبب عدله”، وإن “فضيلة الرجل تكون علي أثره، أما الرجل سيء الذكر فينسى”، وأن “العدالة ستعود إلى مكانها والظلم ينفي من الأرض”، وهنا نطرح سؤالا آخر:
– ما الذي حدث ويحدث لنا ؟!.. لماذا اختلَّ ضميرُنا وضعُفَتْ قوّتُنا وصرناَ عبيداً لشهواتِنا، لما أصبحنا نَرَى الباطلَ حقَّا، والشرَّ خيراً لا يردعُنا عنه رادعٌ ولا يحجُزُنا عن ارتكابه حاجزٌ، ثم كيف تبدل حالنا من:
– المصري الذي تمسك بالأخلاق وصنع الضمير الإنساني منذ خمسة آلاف سنة قبل الميلاد وعلم الدنيا كلها أبجديات الأخلاق الكريمة، إلى المصري الذي أساء لنفسه قبل أن يسئ لوطنه، المصري الذي تآمر مع العدو ضد وطنه، المصري الذي باع ضميره بحفنة دولارات أمريكية، وريالات قطرية، وشلنات إسرائيلية، وليرات تركية، وتمانات ( ريالات ) إيرانية، المصري الذي تاجر في أعضاء مرضاه، المصري الذي تآمر على حضارته وباعها بليل أسود للعدو.
– المصري الذي أشعل الحرائق في ممتلكات وطنه باسم الدين والدين منه ومن أمثاله برئ، المصري الذي قتل جنود جيشه وشرطته، المصري الذي فجر وقتل المصلين في مساجدهم وكنائسهم، المصري الذي كبل نفسه بكل أنواع وأشكال القضايا والمشاكل فتحولت حياته إلى جحيم لا يطاق، المصري الذي سرق قوت أخيه واستعلى عليه وظلمه وحقره وسفهه و….؟!.. أسئلة كثيرة بحاجة إلى ” كنسلتو ” من علماء النفس والاجتماع، – خصوصاً في ظل وضع العالم الآن، وما يتعرض له من وباء فيروس “كورونا” الذي أعجز أمامه العلم والعلماء، ولا أحد يعرف له نهاية – لتشريح سلوك ونفسية بعضنا أو أكثرنا للوقوف على أسباب هذا التغير ومحاولة علاجه قدر الإمكان منذ مرحلة الطفولة المبكرة، على أن يكون علاجا نفسيا ودينيا وثقافيا ودستوريا وقانونيا واجتماعيا.
– علاجا يحي ضمائرنا الإيمانية بالله وكتبه وأنبيائه ورسله واليوم الآخر خيره وشره، علاجا يجعلنا نفضل غيرنا على أنفسنا في المواقف التي تستدعي ذلك بالمال والنفس.. علاجا يجعل الانسان منا يحب لأخيه ما يحب لنفسه.. بل ويعطي لأخيه من ذات يده وجهده ووقته ما يبذله لأهله، علاجا يرتقي بنا إلى مرحلة الجود بالشيء ونحن في أحوج ما نكون إليه محبة لله وفي الله، كل ذلك دون قانون يلزمنا، أو حكومة تطالبنا، أو أجهزة تراقبنا، أو عقوبة تتسلط علينا، وإنما نفعله بدافع الضمير والأخلاق وحب عمل الخير والتطوع بالبر ابتغاء مرضاة الخالق عز وجل.
– ألجأ وأستعصم بكلام رب العزة سبحانه وتعالى في هذه الظروف التي أربكت العالم وأفقدته صوابه وتوازنه عندما يقول: “وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ”..{ سورة البقرة:186}.. وفي ظلِّ القوة الربانية، وقمة الضعف البشري لأعتى الدول ظلما وفسادا، تتساقط أمام أعيننا كل أغشية العظمة الكاذبة والجبروت الزائف، ويبدو الأقوياء والأغنياء وأصحاب النفوذ والسلطان أقزاماً لا يملكون لإنسان ضراً ولا نفعا، وهنا يقول المولى تبارك وتعالىً: “قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا”.. { سورة التوبة:51 }.. فكل قوى الأرض لا تقدر على ذبابة، وقد فشلت تلك القوى فشلا ذريعا كما رأينا في محاربة “فيروس” من صُنع يدها!!!
– أعزائي القراء، إنظروا لكلام الله عز وجل أيضا في هذه الآية الكريمة: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ”.. { سورة الحج:73 }.. الله أكبر.. “ضعف الطالب والمطلوب”، وفي ظلِّ هذه القوة يأمن الفرد على رزقه ومكانته، وعلى حياته وسلامته لأنه مطمئن إلى الله يستمدُّ منه، تمعن عزيزي القارئ في هذه الآية أيضاً: “قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ”.. { سورة آل عمران:26 }.. فإذا تكاتفت قوى الأرض جميعاً لتُلحق به الأذى فما هي بقادرة إلا أن يشاء الله، فإذا شاء الله أن يناله الأذى، فهنالك حكمة سابقة، وهناك خيرٌ أعلى من خير الفرد:[ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ] {البقرة:216}. وبذلك كله تطمئنُّ النفس وتسكن وتثق، فلا تهزُّها الأحداث، ولا تذهب بها الأهوال.. اللهم قد بلغت.. اللهم فاشهد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *