أخبار عاجلة

د.مجدي العفيفي يكتب… مفارقات من وحي (ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ)

يوم أن مات الفنان الجميل عبد الحليم حافظ في 30 مارس 1977، انفردت بحكاية المفاجأة، يخفيها على جماهيره، التي كان سيغنيها في حفلة الربيع، ولم يعلم أحد بها آنذاك، وهي قصيدة (عندما ننتظر القطار) للشاعر فاروق جويدة.. ومن ألحان الموسيقار محمد عبد الوهاب، ونشرت الحكاية في صفحة كاملة بجريدة (الأخبار) وكان مانشيتها 
(القصيدة التي لن يغنها عبد الحليم).
وحدثت مفارقة طريفة في النشر سببها خطأ مطبعي، إذ كان فيها بيت يصور لحظة انتظار كلها شجن بين الحبيب وحبيبته يقول:
(قالت: سأرجع ذات يوم
عندما يأتي الربيع..
وجلست أنظر نحوها
كالطفل يبكي غربة الأبوين
كالأمل الوديع).
لكنها نشرت كالتالي:
وجلست أنظر نحوها..
كالطفل كالجـمل الوديع
ولك أن تتخيل هذا الحبيب وقد تحول إلى (جمل) في انتظار حبيبته!
بعث الفيلسوف الراحل أستاذنا د.زكي نجيب محمود، مقاله الأسبوعي إلى جريدة 
(الأهرام) في مطلع الثمانينيات، وكان عنوانه (حياتنا العقلية) وتكررت كلمة (العقلية) عشر مرات، لأن المقال كله مبني على هذه الكلمة، لكن عامل المطبعة الذي يصف الحروف على الكمبيوتر أبى إلا أن يكتبها (حياتنا العائلية) وأصر على تغيير كلمة العقلية إلى العائلية في كل سياق وردت فيه! وبالتالي فقد المقال قيمته ورؤيته، بل وانهار بناؤه كله!
عندما عاد الرئيس الراحل محمد أنور السادات بعد زيارته إلى تل أبيب عام 19 نوفمير 1977 جاء في مقدمة الخبر الرئيسي للصفحة الأولى، عاد الرئيس محمد أنور السادات (العاشق الولهان) بعد زيارته إلى تل أبيب، حيث حدث خطأ تمثل في أن سطر (العاشق الولهان) قفز من الصفحة الثانية، وكانت صفحة للإذاعة والتليفزيون، والعاشق الولهان جاءت في سياق قصة فيلم لفريد الأطرش!
في سياق هذا التذكر لما يمكن أن تحدثه نقطة أو حرف في تغيير المعنى كليةً، كأن المراجع اللغوي لـ(التحرير) أبى أن يصدق أن شاعرًا وصلت به ذروة النفاق السياسي للحاكم إلى درجة لم يسبقه فيها الأولون والآخرون أيضا.. حين قال واصفا إياه وصفا لم يخطر على بال إبليس نفسه:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار
لم يصدق الزميل العزيز، وأنا بالتأكيد أشفق عليه وأتعاطف معه إلا قليلا، أن هذا الشاعر الذي يعد نقيب المنافقين في الإبداع العالمي، يرجع المشيئة إلى الحاكم ويقول له (أنت الواحد القهار)!
والذي حدث أني نشرت في مقالي الأسبوعي الماضي هنا وكان عنوانه (متى نتخلص من هذه اللعنة) وهي (لعنة أفعل التفضيل.. التي تدمر أشياء كثيرة في حياتنا، وفي فقرة منه جاء:
(في السياسة والحكم. نجمد مسيرتنا عند حاكم بعينه أو رئيس بذاته، أو حقبة سياسية متعينة، وكأن هذا الحاكم أو الرئيس لم تلد النساء مثله، أو كأن مصر بلد عقيم.. مع أن كل الأفكار والتحولات هي مرحلية ونسبية، لها زمانها ومكانها وظروفها ومناخها وخلفياتها.. اللهم إلا ما يندر أن يخترق الزمان والمكان، وهو استثناء لا قاعدة. الزعيم الأوحد.. والرئيس الذي جاء علي موعد مع القدر.. والحاكم الموحى إليه من السماء.. والبطل الذي لا يُشق له غبار.. على طريقة الشاعر الذي مدح الخليفة:
ما شئتَ إلا ما شاءت الأقدار
شاهد أيضاجمهور العندليب يشيد بموهبة حفيده في كليب «سمار عيونه» جمهور العندليب يشيد بموهبة حفيده في كليب «سمار عيونه» حفيد كمال الشناوي يأخذ الإلهام من العندليب في أغنيات ألبومه الأول حفيد كمال الشناوي يأخذ الإلهام من العندليب في أغنيات ألبومه الأول
فاحكم فأنتَ الواحد القهار
إنها.. لعنة «أفعل التفضيل»!
هكذا نشرت (ما شئتَ إلا ما شاءت الأقدار) وزيادة في التوضيح وضع المصصح اللغوي علامة الفتحة على كلمتي (شئتَ) و(فأنتَ).
وبالتالي تم تدمير المعنى، لأنه أضاف (ما شئت إلا) والصحيح أنه (ما شئت لا، لا ما شاءت الأقدار)!
فزعت من هذا الموقف، ودارت برأسي دوامات من التفكير السلبي، يا عزيزي.. نحن نعاني من النفاق المدمر في كل مسار، وفي كل سياق، وفي كل مجال، ولم ولا ولن يضيعنا شيء مثل النفاق والرياء.
أرجو أن تصدق هذا الشاعر المنافق وهو (ابن هانئ الأندلسي) مادحا الخليفة المعز لدين الله الفاطمي، حيون يواصل قصيدته:
ما شئتَ، لا ما شاءتِ الأقدارُ
فاحكُمْ فأنتَ الواحد القهّارُ
وكأنّما أنتَ النبيُّ محمّدٌ 
وكأنّما أنصاركَ الأنصارُ
أنتَ الذي كانتْ تُبشِّرنَا بهِ
في كُتْبِها الأحبارُ والأخبارُ
هل تريد المزيد؟!
إنها قصيدة طويلة تتمادى بصاحبها على هذا النحو من المديح الفجّ والفاجر الذي لا يزال شائعا إلى اليوم وغدا في ثقافتنا، حتى لنكاد نستأثر به دون الأمم على وجه الأرض، ولهذا وأكثر من هذا يصدق قول المتنبي:
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم
لا تزال معاني القصيدة المجرمة لـ(ابن هانئ الأندلسي) تتكرر بشكل أو بآخر، مع حكامنا عامة عبر العصور، ومع كل صاحب سلطة راهنة ومستقبلية، فلا عذر لديهم ، إلا قليلا، إن أصابتهم (لطشة الألوهية).
إن ذلك الشاعر السياسي المنافق هو أحد صناع الطواغيت.. وعُبَّـاد الأصنام العصرية.. وبطانات السوء والتضليل.. وممثلي الثلاثية القاتلة في كل عصر: (الفرعونية والهامانية والقارونية).
لا تنزعج ولا ترفع حاجب الدهشة طويلا يا صديقي.. اخفضه وإلا سيظل مرفوعا، وسيرهقك.. ويرهقنا أيضا.
وكفانا إرهاقا.. وإزهاقا لأنفسنا!
وسلام قولا من رب رحيم.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *