أخبار عاجلة

د.مجدي العفيفي يكتب… متى نتخلص من هذه اللعنة ؟

من أمراضنا المزمنة التي انسحبت على كثير من سلوكياتنا ومظاهر حياتنا وطرائق تفكيرنا، والتي أدمناها ولا نريد الشفاء منها، بل تسري في دمائنا مسرى الدم..  مرض «أفعل التفضيل»، هذا أفضل سياسي، وذاك أعظم حاكم، وأحسن كاتب. وأشجع مفكر، وأجمل مطرب، وأحسن فنان، وأحسن اقتصادي، وأفضل شيخ، ومتحدث، وداعية، ومثقف، وفقيه، و…، و…! إنها لعنة «أفعل التفضيل»! الصوت الواحد لم يعد له وجود جوهري، لا بد من تعددية الأصوات، التحاور والتجاور، الأخذ والعطاء، الصوت والصوت الآخر، الرأي والرأي المضاد، الطريق يتسع للجميع. إنها لعنة «أفعل التفضيل»! لماذا نوقف حياتنا وسيرنا ومصيرنا بشخص بعينه لا نتجاوزه؟ لماذا نعتبر أن هذه الفترة أو تلك الحقبة هي العصر الذهبي؟! لدينا ضحايا كثر في كل مرحلة وكل عصر، في السياسة، في الأدب، في الفن، في الاقتصاد، في العلوم. إنها لعنة «أفعل التفضيل»! في السياسة والحكم.. نجمد مسيرتنا عند حاكم بعينه أو رئيس بذاته، أو حقبة سياسية متعينة، وكأن هذا الحاكم أو الرئيس لم تلد النساء مثله، أو كأن مصر بلد عقيم! مع أن كل الأفكار والتحولات هي مرحلية ونسبية، لها زمانها ومكانها وظروفها ومناخها وخلفياتها، اللهم إلا ما يندر أن يخترق الزمان والمكان، وهو استثناء لا قاعدة. الزعيم الأوحد، والرئيس الذي جاء على موعد مع القدر، والحاكم الموحى إليه من السماء، والبطل الذي لا يُشق له غبار، على طريقة الشاعر الذي مدح الخليفة: ما شئتَ لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنتَ الواحد القهار إنها لعنة «أفعل التفضيل»! في الفقه، نجد أنفسنا مسجونين في المذاهب الفقهية الخمسة «الحنفي، الشافعي، الحنبلي، المالكي، الجعفري» كلها تقف عند زمن معين حتى القرن السابع الهجري عندما أغلق الخليفة المعتصم باب الاجتهاد واكتمل الإغلاق والانغلاق عند «الواثق» وصار الفكر فقه السلطة الوحيد والأوحد، وكان قمع الفكر الحر النقدي، وصار من مهمات الفقه ترضية الناس بأوضاعهم، وجاء في «العقد الفريد» لابن عبد ربه: «إذا كان الحاكم عادلاً فله الأجر وعليك الشكر، وإذا كان ظالما فعليه الوزر وعليك الصبر»، وعندما حكم المماليك بعد سقوط بغداد حرصوا على إبعاد الناس عن مشكلاتهم الأساسية وشغلوهم -بأيدي الفقهاء- بأمور مثل نواقض الوضوء ومفسدات الصلاة ولباس المرأة والنجاسة والطهارة، حتى أصبح لدينا ما يسمى بـ«فقه الوضوء»!! وانعكس التشرذم السياسي على جميع مناحي الحياة، وأصبح الالتزام الفقهي موازيا للالتزام والولاء السياسي، وصار لكل أمير فقهاؤه، وبالتالي صار الفقيه لا يقبل من أتباعه بسماع غيره، وظهرت مقولة «المريد بين شيخين كالمرأة بين رجلين» ولا تزال هذه المصائب الفقهية مصدر معاناة لنا اليوم، فهذا شيخ الإسلام، وآية الله، وحجة الإسلام، وإمام الأئمة، وآية الدهر، ومؤلف هذا وكتاب ذاك يكاد يكون قرآنا، فهو الأنقى، والأتقى، والأطهر، والأفقه، والأنصع، والأندر، والأرشد. إنها لعنة «أفعل التفضيل»! في الآداب مثلا، عربيا وأجنبيا وإنسانيا، نجد أسماء بعينها تتكرر، بحثيا وإعلاميا، مثلا امرؤ القيس في العصر الجاهلي وحده فقط مع أن المعلقات كثيرة وقيمة، ثم تتوالى التقسيمات القسرية لعصور الأدب العربي من جاهلي وإسلامي وأموي وعباسي وعثماني وحديث، وكلها تقسيمات أصلها المستشرقون، مع أنها مسيئة للإبداع العربي. وفي هذا السياق أذكر أن نجيب محفوظ، وهو قيمة وقامة، ولا ينكر ذلك إلا مغرض وهدّام، ولكن نجيب محفوظ وحده لا يكفي تمثيلا للإبداع الروائي، هناك أصوات وأجيال لا نكاد نذكرها أو نتذكرها إلا في المناسبات! كل التيارات الفكرية والمذهبية اتخذت من أعمال نجيب محفوظ سندا تتكئ عليه، التيارات الدينية وجدت فيه ملاذا وجدارا، واليسار، والوفد، والقديم والجديد، كلٌّ وجد ضالته المنشودة استشهادا بأعماله، حتى صار نجيب محفوظ «مؤسسة» قائمة بذاتها غير متصلة بما سبقها وغير ممهدة لما جاء بعدها، حتى يمكن القول إن أعماله قُتلت بحثا ونقدا على حساب مبدعين كبار، وليس الذنب ذنب نجيب محفوظ، ولكن جريرة من صاروا «يستسهلون» البحث فيه.  أين الاهتمام بكبار كتّابنا: إحسان عبد القدوس، يوسف إدريس، عبد الرحمن الشرقاوي، محمد عبد الحليم عبد الله، يوسف الشاروني، وغيرهم وغيرهم من المبدعين؟ وقس على ذلك الشعر والشعراء والمسرح والمسرحيين والنقد والنقاد، ثم أين الأجيال اللاحقة والمتلاحقة على الساحة الإبداعية، وكلها تشكل موجات في نهر الإبداع، من يدرس، من يحلل، من يقيم ويقوّم، من يشهد ويوثق، اللهم إلا نظرات فردية، ودراسة من هنا وأخرى من هناك. إنها لعنة «أفعل التفضيل»! في الفكر والمدارس الفكرية والمذهبية، هناك أربعة معسكرات انتظمت خريطة القرن العشرين: الماركسية في روسيا، والتحليلية في بريطانيا، والوجودية في فرنسا، والبراجماتية في أمريكا، وكلها انتهت بانتهاء تأثيرها ودورها ووظيفتها، وسقطت في عقر دارها، فالتطور سنّة الحياة، والجمود ضد حركة الزمن، والسكون عار على طبيعة الحركة، خاصة في الفكر الذي ينبغي أن يكون متجددا. فما بالنا نرتضي أن نعيش عالة على فكر الآخرين والسابقين، لقد انشغلوا بقضاياهم التي أفرزتها عصورهم وحيواتهم ومشكلاتهم وإشكالياتهم، وحلوها بطريقتهم وطرائق فكرهم، أما نحن فلم نصل حتى إلى التشخيص، فقط نكتفي بالتجريد ونرفض التجديد، ونلوذ بالأمان تحت أقدام أفكارهم ونحن واهمون. وحتى إذا خرج بعض منا مجددين وداعين إلى التحرر وإطلاق سراح العقل، وممارسة الحرية والنقد، هَمَّ الكثيرون ليرجموهم بحجارة التخلف وثقافة الجهل ومرض الآبائية، وعملوا بشق الأنفس على وضع المجددين مكان إبليس في موسم الحج! ولا يزالون يحاولون، ولكن هيهات! ذلك لأنهم يصرون على أن يعيشوا خارج العصر وأطره المعرفية والأخلاقية والجمالية، ويصرون على أن يعرضوا علينا صورا شاهدناها من قبل آلاف المرات، فصارت باهتة، لا لون لها ولا معنى، إلا أنها مجرد اجترار، ويصرون بكل عناد على أن يسيروا بنا في طريق مللنا من السير فيه حتى صار مادة مسحوقة! ومن ثم فقد قلبنا الموازين، فالإسلام جاء ليحيا الناس به، وليس ليحيوا من أجله، وصار فقهاء الإذاعة والتليفزيون يروجون بسذاجة ودهاء أيضا، إننا نحيا من أجل الدين، وبالتالي نعاني ما نعانيه الآن، والأغرب أنهم يرون أنهم أصحاب الحقيقة المطلقة والمعرفة الكاملة حتى يظنوا أنهم شركاء السماء! شاهد أيضا عم خليل نحتاج إلى خيزرانة لا عصا سحرية إنها لعنة «أفعل التفضيل»! في الفنون، هذا المطرب الأول، وذاك الأجمل، والأوحد، والأسبق، والألطف، والأكثر فهما وذوقا، والأكثر جمهورا، والأنقى صوتا، رغم قالة الشاعر بيرم التونسي: يا أهل المغنى دماغنا وجعنا دقيقة سكوت لله حتى في الدول، هذه قلب العروبة النابض، وهذه مفتاح البوابة الشرقية، وذلك الجناح الأول للمنطقة وحامية العروبة والإسلام، والعظيمة والعظمى، وكل عاصمة عربية هي الأولى وهي النابضة وهي العروس وهي اللؤلؤة وهي الجوهرة، وهي، وهي، وعندما تجمع هذه العواصم، يخيل إليك أنها قوة عظمى، مع أن الحصاد هزيل وحاصل الجمع صفر، إلا قليلا! أليس كذلك؟ إنها لعنة «أفعل التفضيل»! ،،،،،،،،،،،  @ واتس آب: «حصن ديارك بالعدل».. (عمر بن عبد العزيز لأحد الولاة حين حدثه في أمر أخذ الرعية بالشدة). ،،،،،،،،،،،، @ تويتر: «ســـوط الله»، لا «صــوت» له!  @ نفسي الأمارة بالشعر: حتى متى ستظل تحكمنا القبور؟ وتظل تنهشنا الجثث؟ وإلى متى يطن في آذاننا وقر الجيف وإلام تلك الرائحة  ستظل تنفث في شرايين المصير؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *