أخبار عاجلة

نهى البلك تكتب… استفت قلبك.. عن علم

بلى شهدنا…
منذ سنوات كنا نشكو ندرة المادة الدينية المقدمة من خلال الإعلام، فضلًا عن انحسارها في التعليم.. ورأى الكثيرون أن نتيجة هذا الجفاف تعطش شديد للمعرفة الدينية ستخطئ روافدها، أو بعد وجفاء روحي سينعكس على الحياة ككل.. ثم بدأت المساحة الدينية تعود شيئًا ما، بقدر لا يروي بعد، وإنما عادت على أية حال.
الدين علم.. وكما قال محمد بن سيرين: “إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ”.. وأن تكون هناك مساحة تطل على الملايين من خلال الإعلام فيجب أن تكون بوصفها (مجلس علم)، وليس (مجلس دردشة دينية).. والغالب على بعض تلك المساحة هو حالة (الدردشة) هذه، التي لا تترك أثرًا، إلا قليلًا. 
من بين هذه المساحات الجديدة برنامج “لعلهم يفقهون”، وتعنيني هنا حلقات يوم الخميس التي يتم من خلالها تقديم فقه المذاهب الأربعة.. حيث يجلس أربعة من علماء الأزهر، كل منهم يمثل مذهبًا ويتحدث باسمه. 
هذا الشكل من أفضل ما يمكن تقديمه عن الدين في الإعلام، إذ عاد الأمر إلى كونه مجلسًا للعلم. 
ولكن هل المصب المستهدف معد لاستقبال هذا العلم بهذه الكيفية؟
الجمهور المتلقي في غالبيته هو نفسه الذي اعتاد لسنوات طوال على تلقي الدين من خطيب يلقنه، يملي عليه، يصب في أذنه توجهًا ما، ثابتًا، رؤية واحدة، حتى شاع على لسان الكثيرين تعبير: (رأي الدين)، فإذا طلب أحدهم معرفة الحكم في أمر ما فإنه يقدم سؤاله بأنه يريد معرفة رأي الدين في هذه المسألة، وهذا يصح في حالتين، إما أن يكون الأمر من الثوابت، أو أن يوضح العالم المسئول كل ما قيل في المسألة إن كانت من المختلف فيه، ولكن ذلك نادرًا ما يحدث.
مشكلة هذا المفهوم أنه يجعل من ذهنية المتلقي أرضًا لا تصلح إلا لنوع واحد من الغرس، لا تقبل سواه، فإذا استغربت غرسًا لم تعتده لفظته من فورها، فلا نما ولا أثمر.
ذهنية التلقين، التي يفرزها التعليم لدينا، ويؤكدها ويكرسها الإعلام، إلا قليلًا في التعليم وفي الإعلام.. وقليل من نجا بنفسه من هذا المآل باجتهاده الخاص في البحث والتعلم والمعرفة.. ذهنية التلقين تلك تجعل من المتلقي أحد اثنين: متعصب، أو عاجز.. متعصب ليس عن قناعة وإنما عن مبدأ (هذا ما أعرفه)، وعاجز عن التفاعل مع ما يتلقاه، بالقبول والرفض والتفنيد والاختيار.
في حلقات الأئمة الأربعة يتم تقديم رأي الأئمة في أمر ما، قد يتفقون أو يختلفون في المسألة، بناء على أدلة ثابتة، بحسب فهم كل منهم للدليل واستنادًا إلى علم بالقرآن والسنة وأقوال الصحابة وغيرها.. وبديهي أن هذا يكون في أمور يجوز فيها الاختلاف، أما الثابت فلا اختلاف فيه.
يبقى دور المتلقي في أن يستمع ويعرف، ثم يختار.. وهذا هو المفهوم من حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: “استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك”، أن تعلم مختلف آراء المجتهدين من الفقهاء، ثم تختار ما يطمئن إليه قلبك، تختار عن علم.. وليس كما يتصور البعض أن تفتي نفسك بهواك وإن خالفت النصوص.
لكن في ظل ذهنية التلقين تلك سيتطلب الأمر وقتًا لكي ينتج هذا النهج أثره، بحيث لا يفزع المتلقي لمجرد سماعه رأيًا لم يألفه من قبل وإن كان من عالم ثقة.. سيتطلب الأمر وقتًا إلى أن يألف مفهوم التخيير هذا، وأنه غير مجبر على اتباع شيخ أو عالم أو فقيه بعينه، مادامت المسألة في الأمور المختلف فيها. 
يبقى أنه إذا كان هناك رأي لأحد الأئمة يحتاج إلى كثير من التوضيح والمناقشة والتفنيد، فالأفضل أن تفرد له مساحة تكفي لإتمام الإيضاح، وإلا فإن تقديمها بشكل مختصر عابر كفيل بإثارة ريب وبلبلة وتشويش على من يسمعه لأول مرة ولا يملك بعد وسائل التفنيد الذهني والقبول والرفض… فلا يزال هناك فارق بين علم المتخصصين وعلم عوام الناس يجب أن يراعى في مقام كهذا.
حاجز آخر نحتاج إلى عبوره، أنشأته أيضًا ذهنية التلقين.. فعلى الجانب الآخر من التبعية الجبرية أو العمياء، هناك رفض مجحف لكل مختلف. 
“كل يؤخذ منه ويرد”.. مقولة شهيرة للإمام مالك،حكمة مقطرة مكثفة، وفيها ركن من أركان العلم، بها يقوم التعلم، وبإغفالها تغلق أبوابه ربما كلها، إلا قليلًا. 
ليس في أمور الدين فقط، ولكن من شأن الذهنية ذات الطريق الواحد، التي تقبل من مورد ما وتغلق عينها عما سواه، في مجالات العلم والسياسة والأدب والفكر، أن تولد إما مجتمعًا فقيرًا معرفيًا، متشابهًا حد الفقر، أو تولد مجتمعًا متصارعًا، كل جماعة منه تلفظ المختلف.
نحتاج إلى ترسيخ هذا المفهوم.. كل يؤخذ منه ويرد.. لا أحد مقدس حد قبول كل كلمة وكل موقف دون تفنيد، ولا أحد مرفوض لذاته بحيث نغلق الباب دون ضوء يبعثه أو عطر ينثره.  
كل شيخ لديه من العلم ما نقبله وما نرفضه، وكل عالم لديه من المواقف ما نرضى عنه أو يثير حفيظتنا، وكل فقيه قد يتحدث حديثًا نحبه أو ننكره، كل منهم قد تكون لديه سمة نستطيبها أو تغلق صدورنا دونها.. لكن يبقى فضل كل منهم محل تقبل وإعمال وتقدير… هذا ما يحفظ لنا أبواب النور مفتوحة كلها، وروافد الماء موصولة لمصب يفند وينقي ويصفي، ويبقي على عذبها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *