أخبار عاجلة

نهى البلك تكتب… صلِّ في جماعة.. وفكر وحدك !!

” ليس لأنني شديد الذكاء، ولكن لأنني أقضي مع المسائل وقتًا أطول “.. هكذا أجاب أينشتانين عندما سئل عن قدراته الذهنية العبقرية، التي اعتبرها بعض العلماء أهم ما أنتجه عقل، واعتبروه صاحب أعظم دماغ بشرية. 
كان معروفًا عن اسحاق نيوتن وألبرت أينشتاين حبهما للعزلة؛ ولكن ليسا وحدهما، وإنما تكاد العزلة أن تكون ملمحًا أساسيًا في حياة أغلب المفكرين والمبدعين والعلماء؛ وليس سرًا، وليس أدل على أثر العزلة وأهميتها، من دورها في حياة الأنبياء.. ففي غار حراء كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمارس طقسًا روحيًا اعتاده قبل البعثة، وهو الخلوة للتفكر والتأمل والبحث واستكشاف الأسئلة الكبرى.. 
في الصلاة يتراص المصلون في صفوف كأبدع ما يكون، يتقدمهم الإمام.. يبدأ الشعيرة، يكبر ويتلو ويركع ويسجد ويسلم، وهم من ورائه متّبِعون… ولكن هل يستوي الجميع في القبول؟ في الثواب؟ في التأثر من الصلاة والاستماع والدعاء؟ هل خشعوا جميعًا بنفس القدر؟ هل دمعت الأعين كلها ووجلت القلوب واطمأنت النفوس؟.. في اللحظة التي تلتصق الجبهة بالأرض، لا حاجز ولا شاهد ولا مستمع، إلا الساجد وربه، هل يستوون؟! 
وفي الصوم كذلك نؤدي الركن كجماعة، نتبع المواقيت، الأهلة والشروق والغروب، ولا يدري كلٌ منا كيف حسب له وللآخرين؛ فمنا من لا يعاني، لشهوة فاترة أو لترف عيش أو لبنية قوية، ومنا من يكتوي بشهوته وتنصهر خلاياه تحت الشمس ويرهق جسدُه لضعف أو لعمل قاس؛ ولذلك كان أجر الصوم، ككل عمل، متفاوت التقدير، وعلى قدر المشقة. 
ولو أن البشر جميعًا اتبعوا نفس الطقوس، والأقوال والأفعال، لما تساووا ولا تساوت أعمالهم؛ فالمعيار لكل ذلك هو النية، والنية عمل قلبي، فردي محض.. 
الفرق بين استمرار الجنس البشري وبين تطوره, هو الفكرة… الاختراع، الإبداع، الاكتشاف, الفلسفة, شئ جديد يحرك القارب عبر شواطئ أخرى، ينقل الخطوة، ويرتفع بالبصر إلى أفق أرحب. 
ولولا الفكرة، لما اختلفت حياتنا عن الأوائل إلا في الكثرة.. كثرة تحيا على الصيد والرعي والزراعة، في مساحات أكبر ليس إلا.. فالأفكار هي تاريخ الجنس البشري.. 
والقوالب الفكرية،والنظريات، صيغت كاستخلاص متأمل لحال قائم، أو كبلورة لرؤية جديدة في وقت ما؛ إنما اتباع تلك القوالب، للأبد، يجعلها أشبه بالتوابيت التي يُسكن فيها البعض عقولَهم ! 
البشر مختلفون بعددهم، تتمايز عقولهم كبصمات الأصابع؛ فلكل خصوصية ولكل تاريخه الشعوري والذهني، وقدراته التي لا يمكن قياسها؛ وبالتالي تجد أن النظريات النفسية هي الأضيق أفقًا والأقل متانة والأصعب اختبارًا بين العلوم.. ولو اعتمدنا عليها، كقواعد ثابتة، في تفسير وتأويل وفهم الآخرين لزادت بيننا المسافات ولفقدنا ملامح بعضنا بعضًا، بدرجة كبيرة، ولا شك؛ فالنظريات، برغم كونها تلفت إلى جديد هنا، إلا أنها تُغِّيب الكثير هناك، ومن اتبعها لن يرى من الآخرين إلا أقنعة محددة تَعلَّمها وحفظها وراح يُلبسها الوجوه التي تقابله فيطمس ملامحها دون إدراك.. 
كمثل ذلك يفعل كل من يتعامل من خلال قوالب ثابتة، مع الدين، مع العلوم، مع الفنون، أو أي مجال؛ فإنهم لن يروا الحقيقة كاملة أبدًا، وربما لن يروا منها شيئًا، على الإطلاق، إلا ما ارتسم ورسخ في عقولهم من توابيت، يُدخلون إليها الكون بكل ثرائه ومتغيراته ومفاجآته التي لا تنتهي مع كل لحظة جديدة وكل مولود جديد.. 
لماذا لم يوضح لنا الله عز وجل آياته في كل مَثَل ضربه لنا في القرآن الكريم؟ لماذا لم يكلف الرسولَ بتفسيره لنا ولا كلف الرسولُ أحدَ صحابته بشرحه للتابعين؟.. بات من اليقين أن الله أراد لنا إعمال العقل في كل أمر, من أصغر شئون الدنيا إلى أكبر قضايا الإيمان والعقيدة؛ ولكن البعض يغفل، أو يتغافل، عن مفتاح عمل العقل وسبيل إعماله ودلالة اعتباره، ألا وهي التخيير والحرية وفردية الحساب..” وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً “.. 
هذه الفردية، فردية الحساب، هي ما يحتم العزلة؛ وليس المقصود بالعزلة هو الخلوة الجسدية حرفيًا، وإنما الاستقلال الفكري، الاحتفاظ بمسافة بين العقل وما يتلقاه من علم ونظريات ورؤى الآخرين وأفكارهم، مسافة تسمح بالتنفس والنظر والحركة، تسمح باختبار المنطق وتذوق المعنى وتكوين الرؤية الخاصة. 
هذه المسافة هي محل الإبداع والابتكار والإضافة والتجديد والتطوير، وكلما ضاقت أو اختفت كلما كان الركود المجتمعي، العلمي والفني والنفسي والفكري.. هذه المسافة هي موضع تقدم مجتمعات وتخلف أخرى؛ في التعليم وفي الدين وفي السياسة. 
هي درجات الصعود للغد، للمستقبل، وهي التي يحتلها منا الماضي في المدرسة وفي جماعات دينية وفي قوالب ونظريات سياسية واقتصادية وفنية وإبداعية.. قوالب كالتوابيت تدفن فيها العقول، والمستقبل معها. 
بالطبع ليس المطلوب أن نخالف كل معتاد، ولا أن نفارق كل نظام جماعي؛ ولكن أن نحسن التمييز فيما يجب فيه الاتباع، وما ينبغي عنده الاستقلال.. فالعلم التلقيني، الثابت سلفًا، أساسي ومهم لكل من أراد أن يبتكر، والنظريات القديمة مهمة لكل من أراد أن يجدد؛ ولكن كل ذلك أشبه بالطريق الذي حفره ومهده السابقون، علينا، إذا شئنا، أن نسير فيه ولكن كمبصرين متحسسين مواضع الخطو كي لا نتوه أو نتعثر أو نسقط ! ولنا، إن شئنا، أن نشق طرقًا، جديدة، لنا وللقادمين، على بينة.. 
فالحياة طريق يتمدد، لا ينتهي أبدًا حيث رسم السابقون خرائطهم. 
ولا يجوز الاتباع فيما سنحاسب عليه فرادى، فلن يُسأل المغسل عن أعمال الميت الذي بين يديه، ولن يحمل مؤسس جماعة، ولا شيخها أو قائدها، أوزار من اتبعوه بتعطيل العقل وتقديس ما لا يقدس.. ” إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ “. 
في نشرات الأخبار تستطيع أن ترى الماضي، أو تلمح نورًا من المستقبل.. أخبار الصراعات كلها ابنة الماضي، بأفكاره وقوالبه وورثته؛ ويوم تسود أخبار العقول وحدها، العلم والإبداع والفكر، يوم تُفتح شرفات المستقبل .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *