أخبار عاجلة

د. سمير عباس يكتب… “جنون الدولار.. الى أين..؟!!”

الجزء الثالث..

استكمالا لعرض قضية الدولار في مصر ووضعها في اطارها الصحيح ، لابد من الاشارة الى ما يلى :-
أولا : أن ما تنشره أجهزة الاعلام والفضائيات حول هذه المشكلة هو في غالبيته العظمى مجرد آراء وانطباعات تعبر عن عدم فهم لابعاد المشكلة وجذورها، لا نستثنى في ذلك أى من المتحدثين سواء كانوا اعلاميين يروجون لما يريدونه هم ومن خلفهم الجهات االتى يعملون لديها ، أو كان المتحدثون هم من حاملى الالقاب العلمية الفخيمة، والذين كان من سوء حظ مصر أنهم تولوا في الماضى أو مازالو يتولون فى الحاضر مقاعد قيادية في مؤسسات هامة اقتصادية او مالية. 
ثانيا : أن القاء القبض على قيادى اخوانى أو بعض أصحاب شركات الصرافة المتعاونين معه بتهمة الاضرار بالاقتصاد القومى من خلال جمع الدولارات من السوق وتخزينها في بيوتهم أو تهريبها الى الخارج، لن يحل مشكلة الدولار في السوق المصرية، حتى لو بلغت المبالغ التى تم التحفظ عليها نصف مليار دولار كما نشرت بعض اجهزة الاعلام مؤخرا. فمثل هذا التوقع تبسيط مخل لقضية معقدة عمرها أكثر من نصف قرن من الزمان وارتبطت اساسا بتزايد السكان والاستهلاك وتراجع الانتاج والانتاجية في الاقتصاد المصرى.. 
مع بداية التسعينات ، وكما سبق ايضاحه في الجزء السابق من هذا الموضوع، تراجعت القبضة الخانقة حول رقبة مصر والاقتصاد المصرى، وبدأت بوادر الوفرة المالية التى نجمت عن الاعفاء من ديون خارجية ، وودائع في البنك المركزى المصرى ، وشطب ديون عسكرية وأقساط وفوائد متأخرة، كل هذا بالاضافة الى اعفاء من ديون سيادية في اطار نادى باريس بلغت نسبتها خمسين بالمائة وبمبلغ قدره حوالى 25 مليار دولار. 
فى هذا السياق تشير أكثر المصادر تحفظا الى أن التدفقات المالية والسلعية خلال الفترة من 1980 الى عام 2000 بلغت 500 مليار جنيه يدخل ضمنها:
– 50 مليار دولار معونات وقروض ميسرة امريكية واوروبية 
– 50 مليار جنيه دخل اجمالى من قطاع السياحة 
– 50 مليار جنيه دخل قناة السويس
– 150 مليار جنيه تحويلات مباشرة وغير مباشرة من العمالة المصرية في الخارج.
السؤال هو : كيف تصرف النظام في تلك المرحلة، وهل تم استثمار هذا السيل من الاموال من مختلف المصادر بالصورة المرجوة ..وهل حاول أحد رجال الاقتصاد التفكير فى الخروج بمصر من حلقة الاقتصاد الريعى المعتمد على المعونات وتصدير الموارد الطبيعية الاولية الى اقتصاد قائم على التصنيع وخلق القيمة المضافة واستثمار الموارد البشرية والطبيعية بصورة صحيحة تحقق انطلاقة اقتصادية حقيقية ؟؟؟؟؟؟
للاسف، هذا ما لم يحدث. صحيح تحققت بعض الانجازات التنموية التى كانت تعكسها مؤشرات النمو الاقتصادى الكلى كما قدمتها على مدى تلك الحقبة المؤسسات الدولية ، ولكن تلك المؤشرات اتضح فيما بعد مدى فبركتها وعدم مصداقيتها او تعبيرها عن الواقع الاقتصادى والاجتماعى الفعلى لغالبية طبقات المجتمع المصرى. وانصافا للمرحلة فانه تجدر الاشارة الى ان عددا من الانجازات التى تحققت كانت جميعها تقريبا خلال النصف الاول من سنوات حكم الرئيس مبارك وتمثلت في عدد من المدن الجديدة، و بعض شبكات الطرق، و انارة القرى المصرية و غيرها من انجازات لا تتناسب ابدا مع الفرصة المتاحة حينها. وبدلا من التركيز على الهياكل الانتاجية وتطويرها، وتحديث الصناعات الوسيطة والثقيلة ، اتجهت الدولة الى الاقتصاد الخدمى واتجه المستثمرون الى الصناعات الاستهلاكية سريعة العائد، بل ان برنامج الخصخصة ذاته فتح الباب للصوص والمغامرين الذين راحوا بالتواطؤ مع الفساد الحكومى وقتها يستولون على مؤسسات القطاع العام باسعار بخسة ويقومون بتشريد الالاف من العمالة الوطنية.
على مدى تلك السنوات بدأت مديونية الدولة تتزايد من جديد .خاصة مع عمليات تهريب منظم للدولار من مصر وصلت الى حد ان مصر خلال الفترة ما بين 2000 – 2008 احتلت المرتبة الثالثة بين دول افريقيا في تهريب الاموال منها بصورة غير شرعية وبحيث وصلت كمية الاموال المهربة خلال الثمانى سنوات فقط 2و57 مليار دولار اى بمعدل 4و6 مليار دولار سنويا الامر الذى كان يعنى نزح الاموال من الداخل الى الخارج في أكبر عملية نهب عرفتها مصر. 
هذا الوضع ادى الى استمرار الضغوط على المالية العامة المصرية المسئولة عن استيراد احتياجات الاستهلاك المحلى التى راحت تتزايد مع تزايد اعداد السكان وتزايد التطلعات الاجتماعية والاستهلاكية. وبحيث وصلت المديونية مجددا عام 2010 الى خمسة وثلاثين مليار دولار، ولكن على الجانب الآخر كان هناك مؤشر ايجابى تمثل في استمرار المحافظة على احتياطى الدولة من العملات الاجنبية في حدود مساوية لهذا الدين الخارجى اى 35 مليار دولار. هذا الكم من الاحتياطى النقدى كان كافيا وكفيلا بأن يجعل الدولة قادرة على التدخل في الوقت المناسب لحفظ التوازن في سوق العملات الاجنبية الامر الذى جعل سعر الدولار على مدى سنوات يدور في فلك ما تريده الحكومة وما تهدف الى المحافظة عليه رغم استمرار فاتورة الواردات في الارتفاع ورغم تدنى قيمة الصادرات.
على مدى سنوات اربع فقط ومنذ عام 2011، وبفعل ما مرت به مصر من ظروف وتقلبات كان من نتيجتها هروب الاستثمار الاجنبى، وارتفاع وتيرة تهريب الدولار من مصر وتراجع السياحة ، انخفض ما تملكه مصر من احتياطى نقدى الى مبلغ 16 مليار دولار عام 2015، منها قرابة اربعة مليارات ودائع لدول عربية شقيقة لا يمكن التصرف فيها. وهنا لاحت معالم الخطر. وبدأ ت ضغوط الطلب على الدولار تتزايد لتلبية الاحتياجات الاستيرادية المتزايدة كما ونوعا بحكم الزيادة السكانية بمعدل مليون مواطن كل سبعة أشهر. هذه الزيادة في الطلب على الدولار لم يقابلها سوى ضمور او انتفاء المعروض من العملة الاجنبية في ظل تراجع السياحة تراجعا كبيرا واحجام الاستثمار الاجنبى عن ولوج السوق المصرى، وتضاؤل قدرة الدولة على الاقتراض بسبب الظروف التى تمر بها دول البترول المصدر الاساسى للاموال في الاسواق العالمية. 
اذن ما هو الحل…وكيف يمكن للاقتصاد المصرى أن يواجه هذه المعضلة بحلول مستدامة تحقق الاستقرار والاستمرار على المديين المتوسط والطويل..؟؟؟
هذا ما سنعرضه في الجزء الرابع والاخير من هذه الدراسة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *