أخبار عاجلة

د. ايمن محمد احمد عيد يكتب… “مصر ودولة جنوب السودان”.. قرأه جديدة

كان الشعبان المصري والسوداني يؤمنان بأنهما شعبًا واحدًا ، وحَّدت بينهما الطبيعية والنيل والحضارة واللغة والدين والتاريخ ، وكان هذا الإيمان يدفع الشعب السوداني إلى الثورة على الاستعمار البريطاني ، مطالبًا بعودة الوحدة مع مصر ، وبسبب السودان تعثَّرت جميع المفاوضات التي جرت بين مصر وبريطانيا التي أجراها زعماء مصر منذ عام 1924م ، حيث كانت بريطانيا تتمسك دومًا باستمرار الحكم الثنائي في السودان الذي كان محل رفض المصريين ، وجاء انقلاب الجيش في يوليو 1952م بقيادة محمد نجيب الذي ولد لأب مصري وأم سودانية ، وكان هذا الأمر صمام الأمان لوحدة البلدين . منذ ما يقرب من الستين عامًا سقطت الملكية في مصر بقبول الملك فاروق التنازل عن العرش ومغادرة البلاد ، وكان إلغاء الملكية بناء على اقتراح أمريكي كما شهد بذلك المرحوم فتحي رضوان ( في كتابه 72 شهرًا مع عبد الناصر ) ، وكان الأمريكان هم الذي دبروا خلع الملك فاروق لأسباب عديدة منها رفضه الاعتراف بإسرائيل ، أما لماذا إلغاء الملكية فقد جاء ذلك في كتاب المفكر الإسلامي جلال كشك ( كلمتي للمغفلين ) ، ذكر أن حكومة الوفد عندما أصدرت مراسيم أكتوبر 1951 ، التي أعلنت فيها وحدة وادي النيل تحت التاج المشترك وتسمية ملك مصر ملكًا لوادي النيل ، قد قطعت الطريق علي أي تسوية ممكنة مع بريطانيا لا تضمن الوحدة مع السودان ، فلما خُلِع فاروق انتقل اللقب إلى ابنه أحمد فؤاد ولم تكن هناك حكومة مهما كان بطشها قادرة على إصدار مرسوم يجرد ملك مصر من هذه الصفة ، والإنجليز يرفضون أي تسوية لا تنص أولا تحقق انفصال السودان ويسخرون من القرار المصري عن التاج Crown المشترك فيسمونه المهرّج Clown المشترك! . وجاء المخرج الأمريكي بالحل للتخلص من المراسيم وذلك بإلغاء الملكية كلها بتاجها وألقابها ، وفرح الشعب وهلل لتحقيق أمل العمر ولم ينتبه أننا أضعنا معها السودان !!! . ثوار يوليو ودورهم في فصل السودان : حدث تحول خطير في الموقف المصري تمثل في عودة المفاوضات مع بريطانيا وقبول ثوار يوليو لمبدأ الاستفتاء على تقرير مصير السودان ، وتم إسناد ملف السودان إلى الصاغ صلاح سالم دونما أي مؤهل أومسوّغ ، إلا أنه وُلد بالسودان وقتما كان والده موظفًا هناك ، وقد صرّح سالم بأنه قبل قيام الثورة لم يكن يعرف شيئًا قط عن قضية السودان ، ولم يقرأ عن السودان ومع ذلك أوفد مجلس قيادة الثورة صلاح سالم إلى جنوب السودان بهدف استطلاع الأحوال هناك ، ولدى وصوله إلى الجنوب شارك سالم بعض القبائل في رقصة كانت تؤدي تحية للضيوف حيث تجرد من ملابسة وأصبح عاريًا ، ونشرت الصحف العالمية صورته تحت عنوان ” الكولونيل العاري ” والأسوأ أنه ذهب إلى هناك موزعًا الأموال والهبات بسخاء شديد على زعماء الجنوب بغية شراء ولائهم لمصر ، وقد جاء فعله بالنقيض مما كان يريد إذ رفض الجنوبيون التصويت لصالح الاتحاد مع مصر خشية اتهامهم بالتربح وتعاطي الرشاوي على حساب مصالح القبائل الجنوبية . وجاءت نتيجة الاستفتاء لصالح الانفصال عن مصر وكان من أسباب ذلك : • ما فعله صلاح سالم في الجنوب . • خشية الشمال من الاتحاد مع مصر بعدما رأوه من سياسات الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قبل توليه الرئاسة وتخلصه من محمد نجيب السوداني الأصل بالصورة التي تمت ، حيث جرى عزله ونفيه بطريقة قاسية ومهينة وهو الأمر الذي ترك أسوأ الأثر في نفوس السودانيين . • بطش العسكر بمعارضيهم في مصر كما بطشوا بنجيب والإخوان المسلمين . ومن ثم كانت المحصلة هي انفصال السودان عن مصر عام 1954 ، وكان الانفصال بمثابة أو مسمار في وحدة السودان الإقليمية كدولة موحدة ففي عام 1955 أي بعد الانفصال بعام واحد ظهرت حركة ” أنيانيا ” وهي أول حركة انفصالية مسلحة في جنوب السودان ، ومنذ ذلك الحين تتابع ظهورالحركات الانفصالية الجنوبية ، وما أن يتم القضاء على حركة إلا وعاودت الظهور من جديد في شكل آخر وبمسمى آخر ، وذكرت الكثير من الدراسات أن النظام الناصري كان أول من سلّح الحركات الجنوبية ضد الشمال السوداني ، نكاية فيه وعقابًا له على تعاطفه مع نجيب والإخوان المسلمين ورفضه الوحدة مع مصر تحت حكم العسكر ، ومنذ ذلك الحين أخذت السياسة المصرية تنحو منحى التجاهل تجاه السودان ثم جاءت هزيمة 1967 ، لتنكفئ مصر على ذاتها وليتحول اهتمام القيادات المصرية إلى أولوية تحرير الأرض بالحرب أو التفاوض . عهد السادات : تطور الأمر على نحو أكثر إيجابية في عهد الرئيس السادات الذي توصل إلى اتفاق مع الرئيس جعفر نميري ( 1978-1985 ) حول صيغة ” التكامل ” التي أقامت مؤسسات عدة للتعاون بين البلدين ، ولكن حكومة ” الصادق المهدي ” التي جاءت بعد ذلك ألغت التكامل وتبنت ما سمى في حينه بـ ” ميثاق الإخاء ” الذي كان بمثابة نكوص أدى إلى تراجع العلاقات خطوات إلى الوراء . عهد مبارك : كان السودان طوال تلك الفترة يمر بتحولات خطيرة وكانت القوى الاستعمارية تدفع الأمور فيه باتجاه التقسيم والتفتيت ، ومع تأرجح العلاقات المصرية السودانية خلال فترة الحكم الحزبي الأخير ( 1986-الصادق المهدي ) حتى (1989-البشير ) تم الانهيار الكبير لهذه العلاقات خلال العقد الأول من حكم الرئيس السوداني عمر البشير ، وتورطت مصر بشكل علني في أزمة جنوب السودان ، وانخرطت في تقديم المساعدات للحركة الشعبية لتحرير السودان ، وجناحها العسكري ( الجيش الشعبي ) ، وأصبح جون جارانج ضيفًا دائمًا على مصر واحتضنت مصر التحالف الشمالي المعارض للخرطوم في إطار المواجهة مع النظام السوداني ، ووصل الأمر إلى حد اتهام النظام المصري لنظيره السوداني بدعم أعمال العنف والإرهاب التي وقعت في مصر في عقد التسعينيات الماضية ، ووصل الأمر إلى حافة الحرب بين البلدين ، وكانت قاصمة الظهر في العلاقات المصرية السودانية هي اتهام مصر للنظام السوداني بالضلوع في محاولة الإغتيال الفاشلة للرئيس مبارك في العاصمة الأثيوبية أديس أبابا في عام 1995م ، والتي اندلع على أثرها سجال إعلامي حاد بين الطرفين كاد يتحول إلى حرب مسلحة . وفي هذه الأثناء كانت المواجهات الدامية على أشدها بين الجيش السوداني والجبهة الشعبية لتحرير السودان بزعامة جون جارانج والتي كانت تسعى للسيطرة على كامل السودان وليس الجنوب فقط ، غير اقتسام السلطة والثروة مع حكومة جبهة الإنقاذ في الخرطوم وتعالت أصوات في مصر تقول بوجوب دعم مصر للجنوب ردًا على ما كانت تصفه القاهرة بدعم حكومة الإنقاذ لجماعات العنف في مصر . وظلت العلاقة بين الجانبين في حيز القطيعة والتدهور حتى أطاح الرئيس ” البشير ” برفيقه في إنقلاب يونيو 89 الدكتور حسن الترابي زعيم جبهة الإنقاذ في ديسمبر من عام 1999 ، ووضعه قيد الإقامة الجبرية ثم الاعتقال الصريح ، وعند ذلك بدأ تيار من الدفئ يسري في أوصال العلاقات بين الجانبين حيث كانت مصر ترى في وجود الترابي في سدة الحكم عقبة كأداء في طريق عودة المياه إلى مجاريها مع السودان ، لأن النظام المصري كان يرى في جناح الترابي الجانب الإسلامي المتطرف في النظام السوداني . وبدأت العلاقات في العودة إلى طبيعتها ولكن بعد أن دفع الطرفان الثمن غالبًا خاصة السودان ، ولكن التواجد المصري في المشاكل السودانية أخذ في الانحسار وقد بدا ذلك جليًا عند توقيع اتفاقية ” مشاكوس ” في نيروبي عاصمة كينيا في 20/7/2002 حيث بدا التواجد المصري رمزيا ودون أى فعالية ، بل إن مصر تركت الحبل على الغارب لأمريكا تحت إشراف مبعوثها للسلام في السودان في ذلك الحين ” جون دانفورث ” ، والتي تقرر فيها اقتسام الجنوبيين السلطة والثروة مع الشماليين ، واستمرت اللامبالاة المصرية في التعامل مع الملف السوداني حتى وقعت الفأس في الرأس ونجحت الضغوط الأمريكية في إجبار السودان على توقيع اتفاقية السلام الشامل في نيفاشا في 9 يناير 2005 ، والتي تعتبر الجائزة الكبرى للجنوب حيث منحتهم فوق ما كانوا يتطلعون إليه في ظل الحكومات السابقة ، فأعطى الجنوب حق تقرير المصير بنهاية الفترة الانتقالية ( 6 سنوات ) والتي انتهت في 9 يناير 2011 ، عن طريق الاستفتاء بالوحدة أو الانفصال . فقيام دولة الجنوب السوداني يعني لمصر الآتي : • سوف يصبح الجنوب مرتعًا للصهاينة في حال انفصاله ، لأن قيام دولة في الجنوب معناه تمكين إسرائيل من الوجود هناك بما يعني تحويل جزء من امتداد الأمن القومي المصري بعيدًا عن السيطرة المصرية ، ومركزًا للمؤامرات الأمريكية الصهيونية ضد المنطقة بأسرها . • عدم الاستقرار السياسي بالسودان سوف تكون له آثار اقتصادية وسياسية سيئة على مصر ، ومن المتوقع حدوث نزوح للاجئين الفارين في حالة قيام حرب تجاه دول الجوار وأولها مصر . • إن شمال السودان الذي يعد نقطة التماس المباشر مع الحدود المصرية مهدد بالانفصال أيضَا ، حيث أن إسرائيل وأمريكا تخططان لإنشاء دولة النوبة جنوب مصر ، وأمريكا الآن تلعب بهذه الورقة كما لعبت ولا تزال بورقة أقباط المهجر من أجل الضغط على النظام المصري للانصياع للتعليمات الأمريكية . • هناك احتمال قوى لانجراف الخرطوم في الانصياع للمخطط الأمريكي تحت الضغوط والتنسيق مع واشنطن بما يعني تجاوز لدور مصر وابتعاد تدريجي بين البلدين خصوصًا أن العلاقات لا زالت متوترة بينهما . • سوف يؤثر فصل الجنوب على إمكانية زيادة حصة مصر من مياه النيل مستقبلا ، فمصر تشهد حاليًا حالة من الندرة المائية وتعيش تحت خط الفقر المائي نظرًا لزيادة عدد السكان مع ثبات كمية المياه الواردة إلى مصر منذ اتفاقية 1959 (55 مليارم3 ) وهي مطالبة بتوطيد علاقاتها مع دول حوض النيل خلال الفترة القادمة ، ولكن أني لها ذلك وقد ظهر لاعب جديد هو دولة الجنوب الذي سترابط فيه أمريكا وإسرائيل ، ومن ثم سيكون هناك صعوبة كبيرة في التفاوض المستقبلي حول زيادة حصة مصر من المياه . • والمعروف أن أخطر أماكن يمكن أن تؤثر على حصة مصر من مياه النيل هي شمال السودان وجنوبه ، حيث أنه عند مدخل النيل الأزرق يوجد مثلث عند خط عرض 12 ، وعنده يشيخ نهر النيل أو يهدأ وبالتالي فإن المنطقة المحيطة به تكون سهلة وممهدة لإقامة أي مشروعات ولا ننسى أن 85% من حصة مصر من مياه النيل تأتي من النيل الأزرق !!! . • أيضًا فإن العمل في قناة جونجلي التي تم الاتفاق على شقها في الجنوب السوداني لتوفير قرابة الـ 5 مليارات م3 من المياه سوف يتوقف نهائيًا ، وبذلك سوف تخسر مصر حصتها من المياه التي كانت ستتقاسمها مع السودان .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *