أخبار عاجلة
د. مجدي العفيفي

د.مجدي العفيفي يكتب.. منصة لإطلاق صواريخ الجمال

آه لو عرف الشباب.. وآه لو قدر المشيب.. هيمنت على وجداني هذه الفكرة، وأنا أحدق في تلك الساعة التي كانت بطلتها هذه السيدة الأنيقة والأناقة سلوك ..الجميلة جمالا ارستقراطيا، والجمال منحة أكثر منه محنة..!.
قل هي شبابية الحركة والمحتوى.. قل هي قطعة متحركة من«الشياكة.. قل هي فراشة تشف حياة وتفيض حيوية، مع انها ابنة الثمانين ربيعا.
رأيتها مصادفة في «خطوبة» حفيدتها.. كانت ترتدي فستانا براقا مثل بريق عينيها.. وتضع مسحة من الماكياج الهادئ.. رغم أنها لا تحتاجه .. إلا أنها الطبيعة الأنثوية.. إلا قليلا.! فراشة أرق من النسيم، تغني وتصفق وتتشارك، وتتمايل ذات اليمين وذات الشمال وقلبها باسط فرحته على مكوناتها، وكأنها توزع السعادة على من حواليها من أجيال تفاعلوا معها في الفرحة، في زمن تعز فيه لحظة فرح.. ليس بسبب كورونا فقط. بل لأن عذابات الحياة أكثر من عذوبتها..
أما الأكثر جمالا.. أما الأجمل مشهدا.. أما الأزهى أناقة.. أما الأرقي شياكة.. فيتجلى في حبها للحياة، وتشبثها بالحيوية، والنضارة والجسارة.. والإشراقة والإفاقة.. والحضور والحبور .. والتدفق بموجاته في نهر الحياة.. والترفق بالشاعر أبي العتاهية الذي قال قبل حوالى الألف عام وهذا البيت الشعري الشهير، للشاعر أبي العتاهية،لا يزال يخترق الإنسان والزمان والمكان :
ألا ليت الشباب يعود يوما
فأخبره بما فعل المشيب
ألا ليتك أيها الشاعر كنت معنا لترى المشيب، وهو ينتصر على الشباب، ويخبره أنه يعيش أياما أكثر جمالا، وأعز عمرا .. وإن بيتك الشعري هذا، وإن كان لا يزال يردده كثير من الذين بلغوا من العمر عتيا، وقد وهن العظم منهم واشتعل الرأس شيبا و ( يااللا حسن الختام ) إلى آخر هذه التعبيرات والمشاعر الإنهزامية التي تسرع إلىالموت قبل الأوان، فإن هناك كثيرا من الناس حق لهم وعليهم حب الحياة، ركضا وسباقا وشوقا وصهيلا.
أشهد أن هذه السيدة تحاول أن تدحض هذا النشيد الاستسلامي امام جبروت السنين، وتقهر ظلام الفكرة التي تودي بالكثيرين إلي المحطة الأخيرة، التي لا يفترض أن يصل القطار إليها إلا بعد حين.
هذه واحدة والثانية. أنه تؤكد أن الزمن لا يقاس بالشهور والسنين ولا بآلة الزمن الطبيعي، إنما يقاس بغزارة الشعور من عدمه.
والثالثة، أنها تتناغم مع الفهم الواعي والمستنير للحياة، وتنسجم عقلانيا وعقائديا، مع النظرة الإيجابية للمعنى المفتوح للآية القرآنية العظيمة}اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ….{ (سورة الحديد: 20) إذ إن القرآن العظيم يحثنا على الحياة كمزرعة للآخرة، فلا آخرة إلا بحياة، وحين يصف التنزيل الحكيم الحياة، يصفها بأنها ( لعب) و(لهو) و(زينة) و(تفاخر) و(تكاثر) – يشير إليها في سياق المدح، وليس الذم كما يزعم أعداء الحياة – فهي لعبة لكل واحد فينا دور يمارسه فيها ، وهي (لهو) لأن اللهو هو التلهي بشيء عن شيء ، فالحزن يلهى عن الفرح، والشبع يلهى عن الجوع، والراحة تلهى عن التعب، والنصر يلهى عن الهزيمة، وهكذا، وهي زينة، وتفاخر، وتكاثر، لاننا نفخر بأننا نمتلك الاجمل في المعنى، والأحدث في المبنى، والأكثر فخرا، وما شابه ذلك.
ومن المقارقات أننا نحن نسرف كثيرا في ذم الدنيا، والتقليل من شأنها، نحقرها وندعو الى التعامل معها بازدراء.. لماذا ؟ لأنها فانية.. مخادعة.. مراوغة.. فالدنيا إذا كست.. أوكست، واذا أقبلت.. بلت، وإذا أدبرت.. برت، وإذا حلت.. أوحلت، وإذا جلت.. أوجلت، وإذا أطعمت.. عمت، وإذا أضحكت.. بكت، وإذا.. وإذا.. وإذا… إلى آخر هذه العائلة الممسوخة في المنظور الذي قعدته النظرة السلبية المتواكلة والراكنة إلى الجمود وعدم الخوض في معترك الأيام..
كأن هذه السيدة كانت تبث رسالة، عنوانها: الحياة مهما كانت أشواكها وأوجاعها المحتلة مساحات من وجودنا ووجداننا.. وأوضاعنا العالمية المختلة بشكل أو بآخر.. وعلى صفحاتها قيمة تسلسل الأجيال في منظومة الحياة، ها هي: الجدة.. والإبنة.. والحفيدة، والقاسم المشترك بينهن : حب الحياة وعشقها، ومن سطورها أيضا مشهد يقول نحن أقوى من الزمن وجبروت الأيام.. نحن أقوى من الحزن فكل شيء هالك.. نحن أقوى من الخوف من حوادث الدنيا فما لحوادث الدنيا بقاء، فدعوها تفعل ما تشاء كما كان يقول الإمام الشافعي في سرديته الشعرية وهو الفقيه العظيم.
نعم أيتها الجدة الشابة – وعفوا ما أنت بـ«جدة» – بل أنت متجددة، لا تقبل بوجود هذه المنطقة التي يريد الكثيرون أن تكون مظلمة في حياته، فالنور موجود وما عليه إلا أن يضغط الزر ليتألق.. فالحياة في سبيل الله أصعب من الموت..
أثبت هذه السيدة مجددا أن المجوهرات النفسية أثمن من المجوهرات الذهبية، التي كانت تخطف الأبصار في ذلك المساء الذي أتى وتهادى إلينا.. مع مرور قطار العمر، لا سيما في المحطة الأخيرة، وأن الحياة قدر، ولابد للإنسان أن يخوض قدره، وإني إذ أهرب من الحياة فإنني مخلوق انهزامي استسلامي ضعيف، حين أفر من قدري الذي هو الحياة الدنيا، فإنني غير جدير بما بعد الحياة الدنيا.
كأنها كانت تقول عيشوا الحياة، ليس لمجرد أن نبقى أحياء.. خوضوا الحياة بكل أبعادها، بحلوها ومرها، بخيرها وشرها، بتعقيداتها وبساطتها، بجمالها وجلالها، بطيبتها ودهائها، بوداعتها ومكرها، بعذاباتها وعذوبتها.. اعشقوا الحياة تعشقكم الحياة.
في ذاكرة حب الحياة أكثر من تاء تأنيث، مثالا لا حصرا، ليلى ومجنونها قيس، بثينة وجميل، عزة وكثير، هند وبشر، وغيرهن ممن هزموا الحياة بتضعيفها مرات ومرات.. كم من هند وليلي وعزة نحتاج أن نستعيدهن لتكون الحياة أكثر حيوية وجمالا…
شكرا أيتها السيدة الحسناء يا ذات الثمانين ربيعا، فأنت بجميل صنعك وبرسالتك للأجيال الجديدة: كنت منصة لإطلاق صواريخ الجمال في فضاء حب الحياة.
نعم .. أواه لو عرف الشباب.. ليته يعرف حقا.. والحق وصولا إلى الحقيقة..!.
وآه لو قدر المشيب..! وها هو يقدر ويقتدر.. لكن أكثر الناس لا يعلمون.. ولا يحيون إلا ليبقوا أحياء.. مجرد أن يبقوا أحياء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *