الرؤي والأحلام ؛- الرؤي الصادقة

روي البخاري عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت : أول ما بدئ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يري رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلي أهله ليتزود ثم يرجع حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال اقرأ ، قال ما أنا بقارئ ، قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ ، قلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أن بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم )
فرجع بها رسول الله يرجف فؤاده فدخل علي خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال زملوني ، زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة وأخبرها الخبر وقال لقد خشيت علي نفسي فقالت خديجة كلا والله ما يخزيك الله أبداً ، انك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين علي نوائب الدهر ، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ابن عمها ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد ألعزي وكان قد تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخاً كبيراً قد عمي ، فقالت له خديجة يا بن عم اسمع من ابن أخيك ، فقال له ورقة يا ابن أخي ماذا تري ؟ فأخبره رسول الله خبر ما رأي فقال له ورقة هذا الناموس الذي نزل الله علي موسي ، يا ليتني فيها جذعاً ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك ، فقال رسول الله أومخرجي هم ؟ قال نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً ، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي .
قال ابن شهاب أخبرني أبو سلمه عن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصاري قال وهو يحدث عن فترة الوحي عن رسول الله أنه قال : بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس علي كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت فقلت زملوني فأنزل الله تعالي ( يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ) وحمي الوحي وتتابع بعد ذلك ، وفترة انقطاع الوحي وصلت إلي ستة أشهر فيها حزن رسول الله حزناً شديداً .

-د. عبد الحليم محمود رحمه الله : تعبير السيدة عائشة في الصحيحين يفهم منه أن الرؤى الصالحة الصادقة من الوحي فبعد أن ذكرت السيدة عائشة هذا أخذت تصف حال رسول الله صلوات الله وسلامه عليه قبل الوحي ولقاء جبريل عليه السلام ورؤيته رأي العين في غار حراء ، ومما يؤكد هذا أحاديث رسول الله أن الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة .
وهذا الفارابي في كتابه ( آراء أهل المدينة الفاضلة )
يري أن الرؤيا الصادقة إنما هي اتصال بين الأرض والسماء ، وهذه الصلة تتم حينما تكون الحواس معطلة بالنوم وقد جربه أكثر الخلق إن لم يكن كلهم ، فجميع الناس إذن عندهم جزء من النبوة يرشدهم إلي الاستدلال علي صحتها وإمكانها إذا تبصروا فيه وترووا في أمره .
ويستطرد دكتور عبد الحليم محمود رحمه الله فيقول : هذه الفكرة تسلمنا إلي التحدث عن رأي الإمام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين يقول : في الاستدلال علي أن الاتصال بين السماء والأرض من صور الوحي أمراً ممكن وموجود ويذكر بالدليل القاطع الذي لا يقدر أحد علي جحده أمرين ، أحدهما عجائب الرؤيا الصادقة فإنه ينكشف بها الغيب وإذا جاز ذلك في النوم فلا يستحيل أيضاً في اليقظة فلا يفارق النوم اليقظة إلا في ركود الحواس وعدم اشتغالها بالمحسات وكم من متيقظ غائص لا يسمع ولا يبصر لاشتغاله بنفسه
وفي كتابه المنقذ من الضلال يقول : وقد قرب الله تعالي ذلك إلي خلقه بأن أعطاهم نموذجاً من خاصية النبوة وهو الرؤي الصادقة إذ النائم يدرك ما سيكون من الغيب إما صريحاً وإما كسوة مثال يكشف عنه بالتعبير .

ومن الرؤى الصادقة رؤية النبي ومن رأى النبي صلي الله عليه وسلم في المنام فقد رآه حقاً لأن الشيطان لا يمتثل به ، ومن رآه في المنام يمكن أن يراه في اليقظة ، ولا ينافي هذا العقل فهناك من يشغله فكره وتأمله عن الإحساس بما حوله .
ابن سيرين : ومن الرؤى الصادقة رؤيا الأموات فالأموات في دار حق وما يقولونه في المنام فهو حق إذا سلم من الفتنه والغرة ، وهو مثال لتلاقى الأرواح بين الأحياء والأموات ، وكذلك كلام الطفل الصغير إذا تكلم في المنام وكلام الطفل الذي لا يعرف الكذب رؤياه لأبويه ، وكذلك إذا تكلم الحيوان فقوله حق وكلام مالا يتكلم آية

وأصدق الناس رؤيا أصدقهم حديثاً ، وأكذبهم رؤيا أكذبهم حديثاً كالمنجمين والكهان ، والجنب قد تصدق رؤياه ، وقد يرى الكافر والفاسق الرؤيا الصادقة وتكون حجه عليه من الله كما رأى فرعون مصر رؤيا البقرات وفسرها له يوسف عليه السلام وكذلك رأى بختنصر زوال ملكه وعظم ما يبتلى به فصدقت رؤياه على ما عبرها له دانيال الحكيم وكذلك رأى كسرى زوال ملكه فصدقت رؤياه وتحققت .

وكان رسول الله صلي الله عليه وسلم يسأل أصحابه كل يوم هل رأى أحد منكم رؤيا البارحة ؟ فيقصونها عليه فيفسرها لهم ثم سألهم أياماً فلم يقص عليه أحد منهم رؤيا فقال لهم : كيف ترون وفى أظافركم الرفع ؟
وذلك أن أظافرهم قد طالت وتقليم الأظافر من الفطرة ، وبالتالي ما يناقض الفطرة يحجب الإنسان عن مطالعة الملكوت بالرؤى الصالحة الصادقة .
روي عن النبي قولة ﴿ أري رؤيا كم قد تواطأت علي أنها في العشر الأواخر﴾ يقصد ليلة القدر فاعتبر تواطأ رؤى المؤمنين حقيقة وأقرهم علي رؤاهم فهم لا يكذبون في روايتهم ولا في رؤاهم إذا تواطأت أي تكررت ، وقد رأي أحد الصحابة صيغة الأذان في الرؤيا فقصها علي رسول الله فقال له علمها بلال فلينادي بها فإنه أندي صوتاً منك وعندما نادي بها بلال وسمعه عمر بن الخطاب أخبر رسول الله بأنه رأي نفس الرؤيا وسمع نفس الصيغة .

وروى أن عائشة رضي الله عنها كانت تقول عند النوم اللهم إني أسألك رؤيا صالحة ، صادقة غير كاذبة ، نافعة غير ضارة ، حافظة غير ناسيه .

أصدق أنواع الرؤيا ما كانت في النهار أو نوم آخر الليل فقد روى عن رسول الله أنه قال : ﴿ إن أصدق الرؤيا رؤيا النهار لأن الله تعالى أوحي إلي نهاراً﴾ ( رؤيا القيلوله ) .
والرؤيا الصادق والتي هي من الله قد تأتى على ما مضى وانقضى فتأتى إذا غفل الإنسان عن شكر نعمه قد سلفت أو معصية حدثت لم يتوب منها وتأخرت توبته ، وقد تأتى عما الإنسان فيه من الحاضر، وقد تأتى لتخبر عن المستقبل عما سيأتي من خير أو شر .
والمستحب ألا تقص الرؤيا على حاسد أو جاهل ولكن تقص على حبيب أو لبيب ولا تقص علي الملأ ، يقصها الرائي على العابر سراً كما رآها سراً ، فالرؤيا الصحيحة والتي هي من الله هي الرؤيا الصادقة والتي تتحقق وقد تأتي بالبشارة أو النذارة وهى التي قدرها النبي بجزء من ستة وأربعون جزءاً من النبوة ، إلا أن الكفار وفسقه المسلمين قد يرون الرؤيا الصالحة للتحذير من الذنوب والتنبه على الغفلات والزجر عن المهلكات وتكون بذلك لإقامة الحجة عليهم

-إبراهيم عليه السلام لما رأى فى المنام ذبح ابنه نفذ الأمر فرؤيا الأنبياء وحي من الله
﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ الصافات 102 ، وفرج الله عن إبراهيم وابنه بلطفه وفداه بذبح عظيم وشرع للمسلمين عيد الأضحية تخليداً لهذه الذكرى .

-وقد أُجيزت وصيه برؤية أجازها أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقد روى أن ثابت ابن قيس لما نزل قوله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ الحجرات2 ، دخل ثابت بيته وأغلق عليه بابه وطفق يبكى فلما فقده النبي أرسل إليه فسأله فقال يا رسول الله إني رجل شديد الصوت وأخاف أن يكون حبط عملي فقال له رسول الله ﴿ لست منهم تعيش بخير وتموت بخير ﴾
ولما نزل قوله تعالى ﴿ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ لقمان 18 ، أغلق عليه بابه أيضا وظل يبكى ولما فقده النبي أرسل إليه وسأله فقال : يا رسول الله إني رجل أحب الجمال وأحب أن أسود قومي فقال له رسول الله ﴿ لست منهم تعيش حميداً وتقتل شهيدَا ويدخلك الله الجنة ﴾ ، فلما كان يوم اليمامة خرج مع خالد بن الوليد إلى مسيلمة الكذاب فلما التقوا وانكشفوا قال ثابت وسالم مولى أبى حذيفة ما هكذا كنا نقاتل على عهد رسول الله ثم حفر كل منهم حفرة وقاتلا وقتلي وكان على ثابت يومئذ درع ثمين فمر به رجل من المسلمين فأخذها فبينما رجل من المسلمين نائم إذ أتاه قيس بن ثابت في المنام وقال له : إني أوصيك بوصية إياك أن تقول أنها حُلم فتضيعها إني لما قُتلت بالأمس مر بي رجل من المسلمين ومنزله في أقصي الناس وعند خبائة فرس يستن فى طوله فأخذ الدرع وقد ألقى على الدرع برمه وفوق البرمة رحل ، فأت خالد بن الوليد فمره أن يبعث إلى درعي فيأخذها فإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله صلي الله عليه وسلم فأخبره أن على من الدين كذا وكذا وفلان وفلان من رقيقى عتيق ، فأتى الرجل خالد بن الوليد فأخبره فأتى بالدرع وتحدث إلي أبو بكر برؤياة فأجاز وصيته ،
عرف ثابت بن قيس الذي أخذ درعه بعد موته وأين مكانه وبأي طريقة أخفاه وجاء إلي أحد المسلمين في المنام وأخبره بكل ذلك وطلب منه أن يقص ذلك علي خالد بن الوليد ويرسل إلي الدرع وكذلك أمره أن يبلغ ذلك للخليفة ليبيع الدرع ويسدد ديونه .
ولم يعلم أحداً أُجيزت وصيته بعد موته غير ثابت بن فيس فهذا يدل على أن الرؤيا في ذاتها حقيقة وأن لها حكماً وأثراً .

وبناء على ما تقدم فالرؤيا الصالحة الصادقة أقسام : كما جاء في كتاب الروح لأبن القيم
منها إلهام يلقيه الله سبحانه وتعالى في قلب العبد ، وهو كلام يكلم به الرب عبده في المنام كما قال عباده بن الصامت وغيره .
ومنها مثال يضربه له ملك الرؤيا الموكل بها .
ومنها التقاء روح النائم بأرواح الموتى من أهله وأقاربه وأصحابه فهي عند الناس من المحسوسات .
ومنها عروج الروح إلى الله سبحانه وتعالى وخطابها له

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *