أخبار عاجلة

د. مصطفى شاهين يكتب.. الاعتزال التام أو الموت الزؤام!!

 تخيل لو أن أحد المعاصرين من ذوي (الحيثية العلمية العالية) ، وقف في ميدان عام، ورفع صوته بشعار ( تديني تجديدي ) هو (الاعتزال التام أو الموت الزؤام) ، بالتناص مع الشعار الوطني القديم ( الاستقلال التام أو الموت الزؤام ) ، فماذا سيظن الناس به ؟! وبماذا سيحكمون عليه حين يخبرهم بأن ما ينادي به ، هو (واجب الوقت الإيماني ) الذي (يجب أن يلتزم به) كل مسلم معاصر في هذا العالم ؟! وبماذا سيحكمون عليه أيضا لو أخبرهم بأن هذا الاعتزال التام هو (أمر النبي) من قبل ، لكل مسلم معاصر الآن  ، وبخاصة لو كان هذا المسلم عضوا في جماعة أو فرقة إسلامية معاصرة ؟!
 بداية وقبل توضيح المقصود باصطلاح (الاعتزال التام) ، وقبل محاولة الإجابة على الأسئلة السابقة، يجب توضيح المقصود بالموت الزؤام : الموت ضد الحياة ونهايتها ، والزؤام لغة : هو الأمر الكَرِيهُ الشديد السريع الحازم القاطع . والموت الزؤام اصطلاحا : هو كل موت تلقاه النفس بشدة ومعاناة غير طبيعية ، وهو غير أن تلقاه بحتف نفسها، أي بإماتة ربها لها . ووضع هذا النوع من الموت في تضاد مع أمر ما ، بديلا عنه إذا لم يحدث، هو آخر مراحل وجود النفس في هذه الحياة . وإذ استمرت النفس حيئذ ، فمعناه أن الأمر قد تحقق أو هو على وشك التحقق ، وإلا فالموت هو المطلوب إذن . وهما ضدان لا يجتمعان معا في قانون المنطق والحياة 
وإذا كان الموت الزؤام في الشعار الوطني التحرري القديم يُتوقع حدوثه وحدث فعلا للشباب الثوري من (مستعمر) غاشم لأرضنا ، فإن الموت الزؤام في الشعار التديني التجديدي المعاصر يُتوقع حدوثه ويحدث فعلا للشباب المندفع من (مستأمر) أغشم على عقولهم . إن هذا (الأمير الجماعاتي) المستأمر، أغشم؛ لأنه يخدعهم من حيث قدرته على صياغة (عقيدة جماعاتية لهم يقنعهم أنها الإسلام)، والخطورة أنه من جلدتهم ويتحدث بلسانهم : لغتهم ومفرداتهم ، وقول ربهم، وأحاديث نبيهم، لكنه يزرع بها في عقول الشباب والكبار أيضا موتا (عقديا) زؤاما، ثم موتا (واقعيا) زؤاما . ألم يقنعهم بأنهم (مشاريع شهادة لله) بزعمه، وهم مشاريع شهادة للجماعة في عقله؟! وماذا عليهم تدينا وواقعا لو أنهم اعتزلوا (تماما) هذا الزعم والعقل؟!
 وأما الاعتزال التام اصطلاحا فهو : استقلال تام واقعي وعقدي تديني ، وسلوكي وفكري تأثري ، عن كل تجليات ومظاهر وتحركات وأفكار الفرق والجماعات الإسلامية المعاصرة : جهادية أو دعوية أو حتى صوفية ، تلبست أخيرا بلباس السياسة المعاصرة ونادت بمقولاتها واقترفت ألاعيبها . وجعلت رقاب أفرادها دون صناديق انتخابها . وما جنت إلا ضياع هيبتها وما حصّلت إلا خيبتها. اعتزال تام لا يكوّن فرقة ، وإلا لزم الدوْر 
وأما أن هذا الاعتزال التام لهذه الفرق والجماعات هو (أمر النبي) عليه الصلاة والسلام لنا جميعا نحن المعاصرين وليس فحسب لشبابنا ، فذلك حيث ورد في حديث حذيفة بن اليمان إذ سأل النبي : (ماذا تأمرني إن أدركني زمن الشر ؟! فقال له النبي : تلزم جماعة المسلمين وإمامهم ، فسأله حذيفة : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟! فقال له النبي : فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك) . وهو حديث صحيح ، ورد في صحيح البخاري ، برقم 6673
وحال جميع المسلمين الآن لا يخفى على أحد : في زمان الشر ، ليس لهم إمام واحد يتقدمهم ، ولا جماعة واحدة تجمعهم . وإنما هم فرق وجماعات متعددة : تكيد لبعضها وتتآمر على بعضها وتستعدي بعضها ، بل وتكفر بعضها . فليس لهم في مقابل ذلك إلا الاعتزال التام لهذه الفرق انتسابا وتأثرا ، ولو أن يعضوا بجذع شجرة حتى يدركهم الموت وهم على ذلك . وهو موت زؤام ، دونه الاستمرار في هذه الفرق والجماعات، انتسابا عضويا لها، أو حتى تأثرا فكريا بمقولاتها وتفسيراتها وسياساتها .
ولقد اعترف بعض قيادات وأمراء هذه الفرق والجماعات على أنفسهم وأتباعهم بما يجعله مبررا واقعيا لاعتزالهم اعتزالا تاما انتسابا وفكرا ، حيث يقول بعض معاصريهم : ( بين الاتجاهات – الجماعات – الإسلامية المتعددة اختلافاً كبيراً في فهم الإسلام وتطبيقه، وفي وسائل الدعوة ومناهجها وأهدافها وأولويات العمل الإسلامي . وأيضاً بين هذه الاتجاهات تناقض وتطاحن ويختلفون في الصغير والكبير والكثير والقليل، ويحدث بينها معارك كلامية وبالأيدي والسلاح أحياناً . وكثير منها توالي وتعادي على ما جعلته من أولويات عملها . وإن كثيراً مما يجري بينها من اختلافات مريرة على المناهج والأولويات والأعمال سببه البغي وحب  الرئاسة وكثرة الاتباع . ورأينا حركات إسلامية جاهدت سنين طويلة ضد الكفر والنفاق، وإذا بهم عند قطف الثمار يقبلون في صفوفهم غلاة الرافضة في تحالفات مشبوهة ) . انتهى كلامه 
وبالرغم من إقراره بأن الجماعات الإسـلامية المعاصرة واقعـة في هذه المآسي ، وهي تعد أسباباً قوية ودافعة لاعتزالها والابتعاد عنها ، فإنه يعــتبر أن تصويب الابتعاد عنها (مبرر شيــطاني لدي الشخص غير الملتزم ) . وعندي أن هذا ليس مبرراً شيطــانياً، بل هو ( مبرر استقرائي واقعي ) ، قائم على (مشاهدات الواقع المرير ) الذي تعيشه تلك الجماعات من : التطــاحن والتناحر والتناقـض والبغي وحب الرئاسة والموالاة والمعاداة على أولويات الجماعات .  وليس على ما يجب الموالاة والمعاداة عليه من الإسلام السليم الذي كان عليه النبي وأصحابه دون وجود فرق وجماعات متناحرة 
محصلة القول : ليس في كلام النبي عليه السلام لحذيفة رضي الله عنه – الذي ينطبق على حال عصرنا الحاضر – من أسباب النجاة إلا (الاعتزال التام حتى الموت الزؤام) لتلك الفرق والجماعات ، طالما ليس للمسلمين جماعة ولا إمام .  وإن الادعاء بأن تلك الجماعات لا يشك أحد في أنها تعمل من أجل الإسلام، ليس صحيحا بإطلاق، فهي تعمل من أجل انتشار مبادئها وكثرة أعضائها. ولن يتكون منها جميعا مستقبلا (جماعة المسلمين) ؛ لأن زيادة عدد كل جماعة يوجد لأفرادها وهماً بصحة توجهها ، والنتيجة مزيد تفرق يصعب معه الاتفاق . فاعتزالها واجب عليهم جميعا ، وقد يقضي عليها جميعا .         

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *