د. مصطفى شاهين يكتب.. فلسفةْ ( إتمام الصيام ) إلى الليل

     لا ( صيام ) بلا ( إتمام ) ، ويكون إتمام الصيام ، ( إلى الليل ) ، لكن هل هـــو إتمام ( توقيت زمني ) أو هو إتمام ( فعل غائي ) ؟! 
      قبل بيان هذا الكلام المجمل لدينا ، المبهم لديك نقول : إذا كان وجود كلمة ( فلسفة ) في  العنوان لا يريحك ، فضَع مكانها كلمة ( حكمة ) وأرح نفسك . فما الفلسفة إلا ( محبة حكمة ) أحببت أن تعلنها للناس فأعلنتها ، فصار حبك لها وإعلانها لا ينفصل عنها ، فأجملت الحكمة ومحبتها في كلمة فلسفة 
     وأما تعبير ( فلسفة إتمام الصيام ) ، فهو ( المعنى العقلي ) الذي يمكن أن يتكون لدى الصائم ، بحيث يكون عائدا على ما يفهمه ويعمل به من تفسيره قول الله عز وجل ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ، ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ۚ ) [ سورة البقرة : آية ١٨٧ ] . والتركيز هنا مقصود على قول الله عز وجل ( ثم أتموا الصيام إلى الليل ) ، وهنا قد ينشأ السؤال ( التديني الفلسفي العقلي ) لدى من يحاول أن يفهم تدينه الصيامي بوعي : هل هو مجرد إتمام ( توقيت زمني نهاري ) بالامتناع عن الطعام والشراب والنكاح من ( الفجر إلى المغرب أو بعده بقليل ) ، أم هو بحق إتمام ( فعل غائي ) بضرورة تحقق ( التقوى ) لدى الصائم في نهار الصيام ؟! لأجل أن يعمل بها في ليل الصيام ، ( فيتسق ) عنده ليل رمضان مع نهاره ، ويتصل به ، ويكون ( وحدة واحدة ) لا تناقض بين جزئيها ، الليل والنهار . ولماذا يجد الصائم نفسه بين ( نزوعين ) متناقضين : كبت وحرمان بالنهار ، وانطلاق وإشباع بالليل ؟! وقد يكون الانطلاق والإشباع في الليل بالحرام للأسف . وهل لو فهم الصائم أن الإتمام المقصود هنا هو ( إتمام غاية التقوى وكيفية تفعيلها ) ، هل يمكن أن يساعده ذلك في نفسه على إزالة مثل هذا التناقض وعدم الاتساق بين كبته وحرمانه النهاري ونزوعه وانطلاقه الليلي وخاصة بالحرام ؟!  
     وقبل بيان ذلك ، نوضح ما يجب توضيحه أولا فنقول : هناك اتجاهان إسلاميان أحدهما أكبر من الآخر في ( فهم ) معنى ( إتمام التوقيت ) لقول الله عز وجل ( ثم أتموا الصيام إلى الليل ) . الاتجاه الأول : الاتجاه التديني بالصيام لدى ( أهل السنة ) ومعه أغلب الفرق الإسلامية الأخرى ما عدا الشيعة ، وهذا الاتجاه يفهم من قول الله عز وجل ( إلى الليل ) ، أي إلى ( أذان المغرب ) ، وهو يعمل بناء على ذلك ، فيبدأ إفطار الصائمين فيه ( عند بداية أذان المغرب ، أو أثنائه ) ، ولا يتأخر الإفطار عندهم عن ذلك التوقيت . وهم بذلك قد فهموا أن صيام اليوم قد تَمّ بأذان المغرب ، لكنهم ينطلقون بعد الإفطار في ممارسة حياتهم العادية الليلية ( ما عدا صلاة التراويح ) ، وكأنه ما كان بالنهار ثَمّ صيام أصلا للأسف 
     ويستند الاتجاه السُنّي ومعه الاتجاهات الأخرى ، في الفهم والعمل بهذا الإتمام ( التوقيتـي ) إلى ( أذان المغرب ) ، على حديث يرويه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ويفهم منه أن الإفطار عند غروب الشمس ومن ثم أذان المغرب هو حكم شرعي . قال ابن كثير ( وَقَوْلُهُ تَعَالَى : ﴿ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ﴾ يَقْتَضِي الإفْطَارَ عِنْدَ غُرُوب الشَّمْسِ حُكْمًا شَرْعِيًّا ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ ، عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم : إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا ، فَقَدْ أَفطَـــرَ الصّـَائِمُ ) . راجع ( تفسير القرآن العظيم ، سورة البقرة آية 187 ) . وصرح القرطبي بأن غياب الشمس حد للإفطار ، حيث ذكر الحديث بصيغة قَال صلى الله عليه وسلم : ( إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ مِنْ هَا هُنَا وَجَاءَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ ) .  خَرَّجَهُ مسلم مـن حديث عبد الله بن أبي أَوْفَى . راجع ( الجامع لأحكام القرآن ، تفسير سورة البقرة آية 187 ) . وقال  الرازي ( قَوْلِهِ : ﴿ ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ ﴾ وجَدْناها عِبارَةً عَنْ زَمانِ غَيْبَةِ الشَّمْسِ بِدَلِيلِ أنَّ اللَّهَ تَعالى سَمّى ما بَعْدَ المَغْرِبِ لَيْلا مَعَ بَقاءِ الضَّوْءِ فِيهِ ، ومِنهم مَن قالَ : لا يَجُوزُ الإفْطارُ إلا بَعْدَ غُرُوبِ الحُمْرَةِ ، ومِنهم مَن زادَ عَلَيْهِ وقالَ : بَلْ لا يَجُوزُ الإفْطارُ إلا عِنْدَ طُلُوعِ الكَواكِبِ ، وهَذِهِ المَذاهِبُ قَدِ انْقَرَضَتْ ، والفُقَهاءُ أجْمَعُوا عَلى بُطْلانِها ) . (مفاتيح الغيب ، سورة البقرة 187)    
     أما الاتجاه التديني الآخر في ذلك فهو لدى الشيعة وبخاصة الإثني عشرية ، فهم لا يفطرون عند أذان المغرب ، بل بعد زوال الشفق الأحمر أو ( الحمرة المشرقية ) . وبحساب توقيت الساعة يؤخرون الإفطار إلى بعد أذان المغرب بعشرة دقائق على الأقل  . يقول علي السيستاني (  لا يجوز – الإفطار – قبل ذهاب الحمرة المشرقية على الأحوط لزوماً ) . وقد لا تجد شيعيا معاصرا يفطر على وقت إفطار أهل السنة . وهم يعتمدون في ذلك على روايات ينسبونها لأهل البيت في تأخير الإفطار إلى زوال الحمرة المشرقية . والعجيب أنك تجد في بعض مصادرهم أيضا روايات تنسب لأهل البيت في تعجيل الإفطار مع غياب قرص الشمس وأذان المغرب . وليس المقام هنا لتفصيل ذلك ، وإنما الذي يهمنا هو أنهم لا يعتقدون أن إتمام الصيام وقتا إلا بعد أذان المغرب بوقت كاف يتأكد فيه زوال الشفق الأحمر أو الحمرة المشرقية ومن ثم دخول الليل وعتمة الظلام ، وهم بذلك يخالفون جمهور المسلمين في كل زمان ومكان 
      وبينما انشغل أتباع هذين الاتجاهين – السني والشيعي – بفهم ( إتمام الصيام إلى الليل ) على المعنى ( التوقيتي الزمني ) ، سواء مع غروب الشمس وأذان المغرب أو بعده بقليل ، تجدهم لم يلتفتوا أو ينتبهوا إلى الإتمام على المعنى ( الغائي الفعلي ) . وهذا المعنى لن يكون عليه اختلاف أصلا ، وقد يكون سببا للتقريب بينهما ، إذا تم اعتماده تفسيرا يناسب روحانية الصيام وتحقق الغاية منه بالتقوى ، التقوى التي هي محصلة شهر الصيام إجمالا وفق قول الله عز وجل ( كتب عليكم الصيام …..  لعلكم تتقون ) . فلو تحققت التقوى لدى الصائم فعلا ، لتم صيامه نهارا ولتصرف بها ليلا ، بغض النظر عن الوقوف طبعا على تحديد التوقيت الزمني وهو مهم أصلا . إن الفهم الصحيح لقوله تعالى ( ثم أتموا الصيام إلى الليل ) يجعلنا ننتقل من المعنى التوقيتي الزمني الشيئي إلى المعنى الغائي الروحاني . وهذا الأخير يلزم الصائم فعلا بحيث يكون ليل صيامه ثمرة لإتمام صيام نهاره بالتقوى . ومن ثم لا يختلف سلوك الصائم بالليل فيصير متناقضا أو متضادا مع نفسه ، فلا يصح لمن أتم صيامه أن يكون ملاكا بالنهار وشيطانا بالليل ، أو أخلاقيا بالنهار ، وغير أخلاقي بالليل 
     وأخيرا ، لنتماهى مع هذا المعنى لإتمام الصيام نهارا بتحقق غايته في شهر رمضان ، فنقول : بهذا المعنى يصبح شهر مضان كأنه ( نهار ) السنة ، وباقي الشهور كأنها ( ليل ) السنة ، فمن أتم الصيام في كل نهار في رمضان إلى الليل ، فقد أتم صيام ( نهار السنة ) كلها إلى ( ليلها كله ) . وكأن الصيام صار ( خزينا رمضانيا ) تم إعداده وإتمامه ، بحيث يصلح ( طعمه بالتقوى ) لطول شهور السنة كلها                 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *